«لكل تراثٍ تراثٌ، ولكلِّ سابقٍ أسبقُ» تلك هى الحقيقةُ التى يدل عليها درس (الحضارات الإنسانية) التى هى نتاجُ تراثياتٍ تعاقبت وتراكبت، وأفضى بعضها إلى بعض، على نحوٍ صنع فى نهاية الأمر: تراث الإنسانية.. ومن هنا نقول: لا شىء يأتى من اللاشىء! خاصةً إن كنا بصدد ظواهر حضارية كبرى، كالتراث العربى الإسلامى الذى نتج عن عمل مديدٍ، امتدَّ قرابة ألف عام من العطاء الإنسانى المتنوع لمشاهير العرب والمسلمين، فى مجالات العلم واللغة والدين والفن والأدب. مما أعطى فى نهاية الأمر تراثاً ينطبق عليه ما ذكرناه من أن لكل تراثٍ تراثاً أسبق منه. بيد أن كثيرين من العرب والمسلمين، القدامى والمعاصرين، شغوفون دوماً بالنظر فى الأثر الذى خلَّفته حضارتنا فى حضارة الإنسانية، وتأكيد التأثير التراثى العربى/ الإسلامى فى زمن النهضة الأوروبية الحديثة. وهو شغفٌ مفهوم، ومسلكٌ مشروعٌ بل مندوبٌ إليه، لتبيان حضورنا فى تاريخ الإنسانية وفى واقعها المعاصر، لكنه لا يمثل على الحقيقة إلا نصف الحقيقة! إذ إن النظر فى لواحق الأثر التراثى، من دون التمعن فى سوابق ذاك الأثر، هو أمرٌ من شأنه تكوين صورةٍ خياليةٍ، غير واقعية، لتراثنا العربى/ الإسلامى. وهى الصورة التى تشكلت فعلاً فى الأذهان ببطءٍ راسخٍ، وأعطت يقيناً كاذباً بأن هذه الحضارة وما أعطته من تراث إنسانى، إنما هى لمعةٌ مفاجئةٌ بدأت مع انتشار الإسلام وسيادة العرب للعالم، فتألَّقت حيناً ثم انطوت، على قاعدة (وتلك الأيامُ نداولها بين الناس) فكأن تراثنا انطلق من دون أصول سابقةٍ، ومقدمات. وهذا بالطبع وَهمٌ كبيرٌ، ولا شأن للآية القرآنية الكريمة به، فى واقع الأمر. فالمداولةُ بين الناس وانتقالُ مشعل الحضارة بين الأقوام، لهما قوانين وقواعد لا بد من إمعان النظر فيها، ولا بد من فهمها بعمق، حتى نصل إلى وعىٍ عميقٍ بالتراث السابق، وبالتالى إلى وعىٍ رشيدٍ باللحظة الحاضرة. ومع إمعان النظر، يتبين لنا أن الرؤية المتمحورة حول الذات، المنكفئة عليها، المكتفية بها؛ ليست وليدة الوعى (العربى/ الإسلامى) المعاصر، وإنما ابتدأت كاتجاهٍ فكرىٍّ عام، نتج عن خطأ منطقىٍّ، هو الانتقال من مقدمةٍ أولى إلى نتيجة حاسمة، من دون المرور بالمقدمة الوسطى التى هى شرط الاستدلال الصحيح، حسبما أوضح المنطق التقليدى.. وفيما يلى بيانٌ لبعض الأمر: «بدأ الخلقُ من العدم» تلك هى الحقيقةُ الإيمانيةُ التى أكَّدتها الدياناتُ التى توالت نزولاً على هذه المنطقة (القديمة) من العالم، ومنها انتشرت شرقاً وغرباً، بعدما تتالت زمناً على الترتيب المعروف، المتصل: يهوديةً ومسيحية وإسلاماً. ومع أن هذه الحقيقة الإيمانية والقاعدة العقائدية، تشير إلى «الخلق الأول» وابتداء الوجود، إلا أن الأكثرين ظنوا كُلَّ خَلْقٍ خلقاً أولَ، وتوهَّموا أن اللاشىء يسبق الظهور المفاجئ لكل موجود.. ومن هنا، هيمنت على أذهانهم رؤى غير واقعية للتاريخ، بل ولحاضرهم أيضاً، تتمحور حول الذات وتكتفى بها وتعدُّها وجوداً مستقلاً عما سبقها، وعما تلاها، وكأنها مسبوقة بالعدم وليس بعدها إلا العدم. وهذا منحى فكرىُّ، يُهدر النواميسَ الإلهية والخبرةَ التاريخية والمنطقَ الذى تسير وفقاً له الوقائع، وإليه تحتكم. «أفحكمَ الجاهلية يبغون» تلك هى الآية القرآنية التى أكَّدت بنصوعٍ، أن الزمن السابق على الإسلام كانت له أحكام. ومع أن كلمة «الجاهلية» وردت مراتٍ فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية، بمعنى المرحلة التاريخية المختلفة عن الزمن الإسلامى الآتى، المبشَّر آنذاك بانتشاره واستقراره، إلا أن الأكثرين ظنوا أن الجاهلية هى اللاشىء، أو هى صِنو العدم.. وتوهَّموا أن «الجاهلية» هى الجهل، ما دام الإسلامُ هو العلم! وهى الظلامُ، مادام الإسلام هو النور. ومن هنا، انسرب إلى الأذهان وهمٌ يظنُّ أن الحضارة العربية الإسلامية ظاهرةٌ طفرت فجأة فى فراغ الإنسانية، وبدأت مثلما بدأ الخلقُ الأول، من العدم واللاشىء.. وفى واقع الأمر، فلا عدمَ أو لاشىء، من بعد بدءِ الخلق وجريانِ النواميس عليه. «إنا جعلناه قُرآناً عربياً» تلك هى الحقيقة البدهيةُ التى أقرَّها القرآنُ، فاستقرأ منها الأكثرون أن اللغة العربية هى لغة الله. وهى وحدَها اللغة. فلا سبقتها لغاتٌ، ولن تتلوها لغات! وخاضوا بناءً على ذلك فى مباحث متفرِّعة عن هذا الظن، فاختلف الشافعية مع الأحناف فى جواز الصلاة بغير العربية، واصطخب أهلُ العقيدة فى الكلام عن قِدَمِ القرآن، وأفاض الأدباءُ فى بيان فرادة العربية وتفرُّدها. وكأن لا صلةَ تقوم بين العربية والعبرية والسريانية، من قبل، وبين العربية وعديد من اللغات من بعد. ثم غاب عن الأذهان، رويداً، أن الله تعالى حين جعل قرآنه المنزَّل على الناس عربياً، أشار ببعض ألفاظه إلى لغاتٍ أخرى: حبشية وفارسية وسريانية، ونظمها فى عِقده العربى. كأنه يُلمح بذلك إلى حضور اللغات الأخرى، وتواصلها مع لغتنا العربية. متجاوزاً فى ذلك، الحكاية التوراتية المفسِّرة لاختلاف لغات البشر، عبر قصة نزول الربِّ إلى أهل بابل لتأديبهم وهدم مدينتهم (البرج) وبلبلة ألسنتهم. «المادة لا تفنى ولا تُخلق من عدم» تلك هى القاعدة العلمية التى يصدِّقها البحثُ فى مجال الطبيعيات، ولا يصادق عليها النظرُ الإيمانى فى مجال ما وراء الطبيعيات. فيتناقض بصددها الفيزيقىُّ مع الميتافيزيقى، ويتضادُّ البحثُ المنطقىُّ مع الاعتقاد الإيمانى.. فإذا نظرنا للأمر من زاوية البحث الحضارى العام، وفَهْم الظواهر الحضارية الكبرى، فمن الممكن رفع هذا التناقض وارتفاع التضاد، إذا ما جعلنا هذه القاعدة على صيغةٍ لا هى فيزيقية، ولا ميتافيزيقية؛ كأن نقول مثلاً: «الحضارات لا تفنى، ولا تخلق من عدم» ولعل هذه الصيغة المقترحة هى البوابة التى نخرج منها إلى فَهْمٍ أرحب ورؤية أوسع، نتفهمُ من خلالهما توالدَ الظواهر الحضارية الكبرى، وتوارثها، وتداولها بين الناس. من دون الوقوع فى مزالق منهجية مثل تلك التى جعلت مفكراً رفيعاً، بديعاً، كابن خلدون الذى كان من دون شكٍ ذكياً، بل عبقرياً، يستقى قوانين العمران البشرى وقواعد علم الاجتماع الإنسانى، من التجربة العربية وحدها. من دون أن ينتبه إلى أن ما قرره من شروطٍ لقيام الحضارة (العمران) كالقبلية والعصبية والدين، ومن شروطٍ لاندثارها تتمثل فى الترف وتراخى روابط القرابة؛ هى أمورٌ لا تصدُق إلا على ظاهرة حضارية واحدة، هى العربية الإسلامية.. ومن وراء ذلك، حضارات كبرى لا يمكن غض البصر عن شأنها، لم تقم وفق ما قرَّره ولم تندثر بسبب ما استخلصه فى مقدمته الشهيرة. فلا اليونان القديمة قامت حضارتها على قبلية أو دين، ولا مصر القديمة اندثرت حضارتها لغرقٍ فى ترف أو تفكُّكٍ لقرابة الحاكمين. «لو أن مؤلف المنطق بلغ زماننا هذا، وسمع دقائق الكلام فى الدين والفقه والفرائض والنحو، لعدَّ نفسه من البكم، أو سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم،لأيقن أن للعرب الحكمةَ وفَصْلَ الخطاب». تلك هى عبارة ابن قتيبة الدينورى فى كتابه الشهير (أدب الكاتب) حيث يُعَرِّض بأرسطو والمشتغلين بالمنطق، انتصاراً لثقافته العربية/ الإسلامية التى تمحور حولها، واكتفى بها عن عطاء العالمين من قبلُ ومن بعد.. وهو النهج الذى نراه أيضاً عند أبى حيان التوحيدى الذى غالب أبا بشر متى بن يونس، المنطقى، واستعلى على المنطق الأرسطى بأحكام «الواو» النحوية! ومن وراء هذين، كثيرون ممن استعلوا بذاتهم فوق علوّ السابقين، فرفعوا النحو فوق المنطق، وجابهوا الشعوبية الفارسية بشعوبية عربية. غير أن ذاك التيار الفكرى العام، فى تراثنا القديم وواقعنا المعاصر؛ كان يدافعه تيارٌ آخر ونهجٌ أرشدُ فى الفهم. وهو ما يتمثل فى الرؤية التى تبناها أعلامٌ من علمائنا، نابهون، منتبهين إلى أن الفارابى هو «المعلم الثانى» لأن أرسطو هو المعلم الأول، وابن أبى صادق النيسابورى الطبيب هو «أبقراط الثانى»، لأن أبقراط الأول كان يونانياً، وكان بحسب اللقب المعطى له من الأطباء المسلمين، طيلة تاريخهم الطويل، هو «الفاضل أبقراط». ومعه أيضاً «الفاضل جالينوس» الذى لم يمنعهم فضله من نقده، حسبما نجد فى عنوان كتاب الرازى (الشكوك على جالينوس) الذى يذكِّرنا بعنوان كتابٍ آخر، مهمٍ، هو (الشكوك على بطلميوس) للحسن بن الهيثم.. وهو الأمر الذى يذكِّرنا بمباحث كثيرة فى العلم العربى، سعى أصحابها إلى استكمال ما تركه السابقون من غير العرب والمسلمين، وحرَّروه للاحقين، وإن كانوا غير عرب وغير مسلمين. ■ ■ ■ نخرج مما سبق إلى تقرير الحقيقة التالية: كان فى تراثنا اتجاهان، يرى أحدهما أن الحضارة العربية/ الإسلامية نسيجُ وحدةٍ لم، ولن، يتكرر. ويرى الآخر أن الحضارة الإنسانية ركبٌ يمتد بجهود الجماعات المتعاقبة، المبدعة علماً وفناً وفكراً. وهو الاتجاه الذى يتلخص مذهبه، فى عنوان مؤتمرنا الدولى الذى انعقد الأسبوع الماضى تحت عنوان (التواصل التراثى).. وهو المعنى الذى أشرتُ فى كلمة التعريف بالمؤتمر، إلى أنه سيكون الزاوية التى منها ندخل إلى العالم الرحب الذى يُعنى بالنظر فى الأصول التى انطلق منها التراث العربى/ الإسلامى، والمقدمات التى سبقته فى المجالات المختلفة: العلمية، والفكرية، والأدبية، والفنية.. وغايتنا تأسيسُ وعىٍ حقيقى بهذا التراث الذى غلبتْ عليه التوهماتُ، واندثرتْ صحائفُه فى خزانات المخطوطات، وسلك فيه المرتزِقةُ المسالك. ولا خلاف اليوم فى أن التراث العربى/ الإسلامى، كان مؤثراً فى الحضارة الأوروبية الحديثة؛ اللهم إلا فيما يتلكأ فيه المتلكئون، ويتنطع المتنطعون. ولكن فى المقابل: ما هى التراثيات التى أثرت فى صياغة التراث العربى/ الإسلامى؟ وكيف امتدت عملية التواصل بين تراث الإنسانية، فشملت العرب والمسلمين حيناً من الدهر؟ وهل من قبله زمنٌ، أتى عليهم حينٌ من الدهر ما كانوا شيئاً معلوما؟ أم أن وعينا المنقوص بتراثنا هو الذى أدى بنا إلى إهمال الأصول العربية، قبل الإسلامية؟ وبأى قَدْرٍ أسهم الحضور العربى، قبل الإسلام، فى صياغة المنظومة الحضارية العربية/ الإسلامية؟ وما الذى أخذه العرب المسلمون من علوم السابقين؟ وكيف أخذوه؟ وهل طوَّروه، أم حفظوه فحسب؟ وما هو أصلاً مفهوم الحفظ؟ وماذا عن اللغة العربية، وتفاعلها شفاهةً مع اللغات السريانية والعبرية والفارسية، وكتابةً مع أشكال التدوين السريانية والنبطية؟ وما دلالة المئات من الكلمات الباقية فى قلب اللغة العربية، من السريانية والفارسية والعبرية، سواء فى أوابد النصوص العربية والنقوش والخربشات المطمورة، أو بين آيات القرآن الكريم الذى هو الكتاب المحورى فى حضارة العرب والمسلمين؟ وماذا عن المسيحيين واليهود والصابئة والمجوس، أعاشوا فى إطار الدولة العربية/ الإسلامية كأهل ذمة أو غير ذوى ذمة، بحسب المفهوم الفقهى، أم تعدى الأمر ذلك إلى مشاركة فعلية فى الظاهرة الحضارية العربية الإسلامية، ابتداءً من استلهام حفر الخندق من العسكرية الفارسية، وانتهاءً بترجمات يهود الأندلس للمتون التراثية العربية إلى لغتهم واللغة اللاتينية، ومروراً بامتداداتٍ عربية إسلامية، لا حصر لها، من التراث المسيحى المتجلِّى فكراً فى علم الكلام، وفناً فى شكل القبة، واقتصاداً فى اعتبار مصر خزانة الدولة، ومعرفةً فى ترجمة النساطرة لمتون العلم القديم من اليونانية والسريانية إلى العربية. هذه بلا شكٍّ أسئلة كثيرة، قد لا تؤرِّق مَنْ يهنأ بالأوهام التراثية، لكنها لا بد أن تشغل الرامى إلى تأسيس وعىٍ حقيقى بالتراث العربى/الإسلامى، المخطوط منه والمطبوع، وهو تراثٌ ملىء بلمعات تضىء الطريق.. لمعاتٌ من نوع إشارة ابن حزم إلى حضور السريانية فى العربية، وتسجيل حنين بن إسحاق لما تُرجم من كتب جالينوس (وما لم يُترجم منها، حسب علمه) وتأكيد بنى موسى بن شاكر فى مخطوطة (الدرجات المعلومة) أن مقدمات العلم اليونانى والعربى من بعد، إنما جاءت من الهند.. ناهيك عن المتصل العقائدى بين اللاهوت المسيحى وعلم الكلام الإسلامى، وعن المصير الفاجع الذى لقيه آباء الكلام المسلمون، وعن تسمية أبى موسى المردار براهب المعتزلة.. ومن وراء ذلك كثيرٌ من اللمعات والإشارات والتنبيهات التراثية، الدالة على التواصل التراثى بين أصول ومقدمات التراث العربى/ الإسلامى، والعطاء الحضارى المتنوع لهذا التراث. ■ ■ ■ وابتداءً من الأسبوع المقبل، سنلتقى مع سبع مقالات جديدة، عنوانها (المزيج السكندرى البديع) وسوف نلقى فيها الضوء على التيارات العميقة التى عاشت بهذه المدينة، قروناً، وقدمت للإنسانية الكثير قبل أن ينطمس مجد الإسكندرية، بسبب سيادة التعصب الدينى وعربدة المهووسين باليقين الوحيد.. فإلى لقاء.