د. حسن أبوطالب من المؤكد أن فرحة الشعب المصري بفوز فريقه القومي لكرة القدم ببطولة أفريقيا هي فرحة حقيقية لا مراء فيها ولا نفاق. ومن المؤكد أيضا أن جموع المصريين الذين خرجوا في الشوارع فرحا بالانتصار الكروي سواء في مصر أو في المهجر, لم يخرجوا تحت ضغط أو وصاية أحد, ولم يسأل احدهم الآخر هل أنت مسلم أم قبطي, ولم يفكر احد في أن يسأل أخر هل في بطاقتك خانة الديانة أو من أي حي أنت, وهل لديك سيارة خاصة أم تركب المواصلات العامة؟ فالكل كان فرحا بإنجاز محسوب لوطنه الكبير بغض النظر عن أي شئ آخر. لقد كان خروجا تطوعيا تلقائيا لم يحصل فيه احد علي إذن أو تصريح من طرف آخر, عكس حالة الفرح الجماعي, وعبر بكل يسر عن الانتماء للوطن الكبير الذي حقق بعض أبنائه إنجازا يبعث علي الفخر في ميدان ديدنه المنافسة والعطاء والإخلاص, واخيرا الفوز لمن يعطي أكثر بالعلم والخبرة. وكان الإنجاز السابق بالحصول علي البطولة نفسها في الدورة السابقة قبل عامين, قد أثار في حينه تطلعات عديدة بالنسبة لقضية الانتماء لاسيما بين الشباب الذي ذهب ليساند فريقه بكل طاقته, باعتبار أن الفريق القومي هو رمز للوطن ككل, ثم خرج زرافات ومجموعات للاحتفال بالانتصار تماما كما فعل قبل يومين. وحينها استغرب البعض منا الحديث عن حالة عدم انتماء بين جيل الشباب وهذا حاله, في وقت يعبر فيه كثيرون منهم عن ضيقهم بحال بلدهم ورغبتهم في فراقها والهجرة منها, حتي لو تطلب الأمر مغامرة قد تنهي الحياة نفسها في عرض بحر هائج. وليس بغائب عنا أن التفسير الشائع لمثل هذه الظواهر هو أنها دليل علي تغلغل حالة عدم الانتماء وسيادة الشعور بالغربة عن الوطن, في جيل سمته الرئيسية هي العطاء والطاقة اللا محدودة لوطنه الكبير. وكانت المفارقة التي قيلت آنذاك وما زالت مطروحة علي نطاق البحث والنقاش العام تتعلق بالحالة والشروط التي يمكن عندها استغلال طاقة جيل بكامله لخدمة بلده ودفع التقدم في شرايينها. ولا جدال أن مصر في اللحظة التاريخية الجارية بحاجة إلي طاقة كل أبنائها, وقبل ذلك بحاجة ملحة إلي مشروع وطني ملهم تمتزج فيه كل هذه الطاقات معا. إن حالة الفرح الجماعي التي تشهدها مصر الآن تقدم إجابة أخري لحالة الاغتراب التي يشعر بها البعض داخل الوطن, إجابة تقول ببساطة إن الأفراد بحاجة دائمة إلي ما يشعرهم بأنهم أعضاء في مجتمع كبير, بغض النظر عن الفروق الطبيعية الموجودة بينهم, وأنهم بحاجة دوما إلي ما يؤكد الرابطة الفطرية والمصيرية بينهم كأبناء وطن واحد, وان الشعور بالفخر الجماعي الناتج عن حالة إنجاز هو المدخل لتمتين رابطة الوطن والمواطنة, وهو المدخل لبعث روح العطاء لدي كل فرد علي حدة. بيد أن الوصول إلي هذه الحالة الجماعية مرهون بدوره بالطريقة التي يتحقق بها الإنجاز العام, والذي يشعر فيه كل فرد بأن له نصيبا فيه, وهو ما لا يأتي إلا عبر مشاركة حقيقية وطوعية ومصانة بالقانون, وانه إنجاز بحق وليس وليد الصدفة أو المغامرة غير المحسوبة, أو بمعني آخر وليد التخطيط ووضوح الهدف وقوة الإرادة في مواجهة الخصوم القريبة قبل الخصوم البعيدة. والمؤكد هنا أن هذا الفرح العارم يعود إلي الشعور العام بأن هذا الفوز مستحق وعن جدارة وليس عن صدفة أو حظ عابر. فهو وليد فكر وتخطيط وتعب وجهد وأداء ممتاز وإرادة وتصميم علي بذل كل ما يمكن بذله من طاقة. والأهم العمل الجماعي وروح الفريق الذي يتداعي بعضه لبعض للمساندة والمؤازرة. وإن تمعنا قليلا في هذه الشروط نجدها متكررة في كتب التنمية, وفي المقارنات التي تعقد عادة بين التقدم والتخلف. فالمتقدمون يعرفون هذه المبادئ ويعملون بها عن ظهر قلب, أما المتخلفون فلا يعرفون منها شيئا, وإن عرفوا عملوا ببعضها وقتا وتجاهلوها وقتا آخر, عادة ما يكون الأطول, ومن ثم يبقون في تخلفهم وعثرتهم بينما يحقق الآخرون التقدم تلو الآخر. هذه المعاني ليست جديدة في حد ذاتها, فهي من أصول التفوق والانتماء والتذكرة بها مطلوبة أو بالأحري ضرورية من اجل سحب تلك الخبرة الرياضية الايجابية إلي ميادين أخري من صناعة وزراعة وتعليم وفنون وثقافة إلي أخر القائمة من ميادين الحياة التي تستقيم بها الأمم وتنهض بها الحضارات. إن مصر غنية بالعناصر البشرية المؤهلة للقيادة والتقدم لا شك في ذلك, وغنية بالأفكار والمشروعات الطموحة وغنية بالطموح والرغبة في العطاء, ومع ذلك هناك تعثر وهناك قدر من التخبط وهناك نوع من الإحباط. وهذه مفارقة كبري لا حل لها إلا بمشروع وطني جامع يعلو علي الجزئيات ويرسم صورة لمصر في غضون عقد أو عقدين تحث علي العمل والعطاء والامتزاج بتراب هذا الوطن الغالي. وفي حوار الرياضة الدائر عبر افريقيا كلها الآن أن المدرب الوطني اثبت جدارته عن المدرب الأجنبي, فهو من صلب الوطن وترابه ويهمه الانتصار للوطن قبل الانتصار للذات, ويضع نصب أعينه فرحة الشعب الذي ينتمي إليه قبل ملء الجيوب. ومصر لا يتوافر فيها مدربون رياضيون أكفاء وحسب, بل خبراء في كل المجالات يتطلعون إلي النظام العام الذي يفجر ما لديهم من مهارات وطاقات وطموح, كما أنهم مستعدون للتضحية من اجل بلدهم وشعبهم. ولعل الدرس البليغ هنا أن تحقيق الإنجاز في أي مجال ليس أمرا مستحيلا إذا توافرت العناصر والعوامل المتعارف عليها والمشار إليها آنفا وامتزجت مع إرادة حديدية تصبو إلي التفوق والعطاء مع إدارة تضع في حسبانها مصلحة الوطن قبل اي شئ آخر. ولا شك ان في مصر كثيرا من الميادين التي بحاجة الي استلهام مثل هذا الدرس, لعلها تحقق النقلة المطلوبة التي يتطلع اليها المصريون جميعهم. إن هذه المعاني الوطنية الجامعة لا تأتي عبر مؤتمرات أو فعاليات ثقافية وسياسية كما يظن البعض منا وبعض آخر قادم من وراء الحدود كل هدفها تعميق الفروق بين أبناء الوطن أو البحث عن ضغوط خارجية علي مجمل الوطن, أو لغرض وضع أولويات فرعية وجزئية لا تخدم إلا فئة علي حساب فئة أخري, ولا يهمها سوي المتاجرة بالشعارات البراقة والتي تغازل بالأساس المانحين عبر الحدود, ولا يحركها سوي أوهام الاستقواء بقوي خارجية. وهدفها الأول والاخير جعل المواطنين اقلية في بلدهم تحت زعم التمييز الايجابي. وبدلا من ترسيخ المساواة والمواطنة يعملون علي ترسيخ التفرقة والتعصب. إن تلك الوصفة من الأفعال كفيلة بهدم الوطن لا بنائه وكفيلة بإثارة الأحقاد لا ترميمها إن وجدت, وكفيلة بوضع الوطن علي نار حامية تهلك الأخضر واليابس. حمي الله مصر منها ومن العاملين عليها, ومن كل المغرورين والحاقدين والساعين في خرابها عن وعي أو عن غفلة. وتبقي كلمة أخيرة, لعلها رسالة عفوية ايضا ولكن من الاشقاء العرب, الذين فرحوا لفرح مصر, واعتبروا انجاز بعض ابنائها انجازا عربيا بامتياز, وقالوا بملء الفهم ان هناك روحا قومية تسري في هذه المنطقة, روح لم تمت في الماضي, ولن تموت في المستقبل. عن صحيفة الاهرام المصرية 13/2/2008