احتفلت مصر كلها, علي مختلف المستويات ومن قبل جميع القوي الوطنية, منذ أيام قليلة بقدوم ذكري انتصار حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر المجيدة, وهو أحد أهم انتصارات وإنجازات كثيرة شهدها شهر رمضان الكريم علي مدار تاريخنا الطويل, وهي الحرب التي مثلت لحظة فارقة, ليس فقط في تاريخ مصر والشرق الأوسط, بل في تاريخ العالم بأسره, عسكريا وسياسيا واستراتيجيا, وحضاريا وثقافيا أيضا. سوف تظل هذه الحرب مصدر فخر لكل المصريين والعرب, وهو فخر سيبقي معنا جميعا ومع أبنائنا وأحفادنا من بعدنا حتي يرث الله الأرض ومن عليها, وذلك بالرغم من كل المحاولات التي لا تخلو من غرض أو هوي, والمستمرة معنا حتي الآن, للتشكيك في هذا النصر وقيمته المعنوية والمادية في آن واحد. وإن كانت القوات المسلحة المصرية البطلة هي صاحبة الفعل الرئيسي لهذا النصر والإنجاز الوطني ويعود الفضل الرئيسي في تحقيقه إليها, بعد فضل الله تعالي, وهو ما مثل استمرارا وتواصلا مع تراث تاريخي طويل من العطاء الوطني والتضحية والفداء من جانب الجندية المصرية في سبيل عزة الوطن ورفعته ومجده وحريته واستقلاله, سواء في التاريخ المصري القديم بمراحله المختلفة أو في التاريخ الحديث منذ إنشاء الجيش المصري في عهد محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر, فإن الشعب المصري بأسره وبمختلف مكوناته الاجتماعية كان بلا أدني شك شريكا أساسيا في صنع هذه الملحمة الوطنية في العاشر من رمضان منذ ما يقرب من أربعين عاما, من خلال صموده ورفضه لهزيمة5 يونيو1967 بدءا بخروجه في9 و10 يونيو1967 متمسكا بقيادته الوطنية ورافضا محاولات الخارج لفرض نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي معين وتوجهات محددة عليه, ثم مرورا بحرب الاستنزاف ووصولا إلي حرب العاشر من رمضان المجيدة. فقد كان الشعب المصري بكل أطيافه وراء نصر العاشر من رمضان, كل مواطن في موقعه, بحيث مكنوا, مجتمعين ومنفردين, المجتمع والدولة من الاستمرار في الصمود وجعلوا تواصل عجلة الاقتصاد والإنتاج ممكنا بما يضمن تحقيق تماسك الجبهة الداخلية في وقت تزامن مع توجيه معظم موارد مصر ودخلها الوطني للمجهود الحربي بغرض إعادة بناء القوات المسلحة, التي كانت ضحية لهزيمة5 يونيو1967 وليست سببا في حدوثها, بهدف إزالة آثار العدوان واستكمال الاستعدادات لحرب التحرير التي كان يتوق لها ويتطلع إليها الجميع, وفي هذا السياق, ضحي المصريون أيضا بالغالي والنفيس وبالعديد من الاحتياجات والأساسيات بهدف توفير الدعم اللازم لجبهة القتال والمواجهة, وتم التصدي في الوقت ذاته للفاسدين وكل من ينتهك القانون في الداخل, بل انخفضت معدلات الجرائم المعتادة في أوقات الحرب بوازع داخلي من المواطنين أنفسهم في ظل درجة متقدمة من الشعور بالانتماء والرغبة في إنكار الذات وتعبئة الجهود وحشد الموارد وراء القوات المسلحة تحضيرا للحظة الحرب ورد الاعتبار للوطن والذات. وهذه الروح تحديدا هي التي يحتاجها الوطن دائما, وخاصة في مراحل التحول في تاريخه, ولا يقتصر هذا علي مصر بل يصدق علي مختلف دول وشعوب العالم, وذلك في المراحل المفصلية في تاريخ كل منها, وهو ما يصدق علي أوقات الحروب الخارجية والأهلية والثورات والكوارث الطبيعية أو الإنسانية, فقد رأيناها علي سبيل المثال في دول كثيرة ولدي شعوب عديدة في أوروبا وآسيا خلال الحرب العالمية الثانية وفي مرحلة إعادة البناء بعد هذه الحرب. إذا كانت الآراء قد تختلف عما إذا كان قد تم التوظيف السياسي الأمثل للانتصار في حرب العاشر من رمضان المجيدة, وأيضا حول التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت في مصر عقب هذه الحرب, فإن الثابت والمتفق عليه هو أن الشعب المصري كان قد قدم عن طيب خاطر الكثير من التضحيات من أجل الوطن ما بين هزيمة1967 وانتصار العاشر من رمضان, وكانت القطاعات العريضة منه مستعدة لمواصلة تقديم المزيد من التضحيات لإعادة بناء الوطن والاقتصاد والمجتمع علي أسس سليمة. نحن في مصر الآن أحوج ما نكون إلي استنهاض روح العاشر من رمضان داخل جميع المواطنين في ضوء حاجة الوطن الماسة خلال تلك اللحظات التي يمر بها إلي إحياء روح الانتماء للوطن وصالحه وتغليب المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة, وكذلك الرفع من شأن روح الالتزام بقضايا الوطن الأساسية والتركيز علي العطاء وإتقان العمل والتفاني فيه بحزم وإصرار من جانب كل مواطن, وتعريف كل مواطن بأهمية بل وضرورة تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات, أي أداء المواطن لواجباته تجاه وطنه بنفس القدر وفي ذات الوقت وبنفس الدرجة من الحماس التي يسعي بها إلي الحصول علي حقوقه والحفاظ عليها وحمايتها, وهو الأمر الذي يتطلب بدوره توعية المواطنين بذلك ونشر هذه الثقافة بين صفوفهم من خلال التوظيف الأمثل لكافة السبل والوسائل المتاحة والممكنة, وفي المقدمة منها وسائل الإعلام وأدوات الثقافة ومناهج التعليم وغير ذلك من سبل توعية. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر