يحلو للكاتب الليبرالى د.عبدالمنعم سعيد أن يذكرنا فى دفاع عنيد بأن الطبقة الوسطى فى مصر بخير وتتنامى بعافية لأسباب يذكرها، متخذا من أى انجاز كروى مصرى دليلا ساطعا على ذلك.. مع تحذيرنا مرارا من الاستغراق فى الانشغال «بالفقراء والمهمشين» لأنهم ليسوا طرفا فى «قاطرة التقدم»! وبالرغم من أننى أرى عكس ما يراه د.عبدالمنعم سعيد، سواء فيما يتعلق بصحة وسلامة الطبقة الوسطى فى مصر، التى لا أراها بخير لأسباب كثيرة ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وكذلك الفقراء «وهم فى تنامٍ» حيث أعتقد أن عوامل كثيرة ساهمت فى إزاحتهم، ومازالت ترهقهم وتستنزف قدراتهم وتعيقهم عن أداء أدوار مهمة وحاسمة فى ملفات وطنية عديدة، إضافة لحالة الارتباك العضوى فى الهوية والانتماء الواقعة مما قد أجد سبيلا لاستعراضه ردا على حيثيات رأى د.عبدالمنعم سعيد فى مقال مقبل. ذلك أن ما دفعنى لكتابة هذا المقال ملاحظة تستحق التأمل فيما حققه أبناء «الفقراء» فى مجال (الانجاز الكروى المصرى) الذى كان نتيجته التتويج المستحق لهؤلاء الشباب على عرش البطولة الأفريقية للمرة الثالثة على التوالى.. ولست أدرى لماذا ارتبط الحدث فى ذهنى بكلمات شاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم، والتى تغنت بها الراحلة الموهوبة سعاد حسنى وسط انجاز وطنى تاريخى «هو نصر أكتوبر» حين ذكرونا بأن هؤلاء هم «ولاد الفلاحين»، ربما لأن العساكر والضباط المصريين الذين كانوا أيقونة النصر ووقوده (مع احترامنا لدور القادة الذين تمتعوا بالبريق والمكافآت) لم تتح لهم وهم من حققوا النصر لمصر ب(الانتماء والدماء) وغالبيتهم من بسطاء الشعب المصرى، أن يحصلوا على ثمرة انجازهم بل تفاقمت من حولهم الظروف والأحوال، ونكران الدور، وضحالة التقدير، فى الوقت الذى تكدست فيه الثروات ونعيم السلطة فى أيدى قلة ربما لم تكن شريكا فى تحقيق النصر! أذكر ذلك.. لأن هؤلاء الشباب من الأبطال الكرويين والذين لم يكن بينهم إلا لاعب واحد محترف. وفى مفارقة كاشفة أتى غالبيتهم من أوساط البسطاء من الملايين المنتشرة فى قرى ونجوع وحوارى مصر المحروسة، هؤلاء الشباب ذوى الموهبة تحقق بهم، ولهم، ولوطنهم انجاز فعلى لأنهم ببساطة تم تمكينهم من أداء الدور. هذا التمكين بالموهبة وثقل القدرات وتكافؤ الفرص لم يتح لغيرهم وهم كثر فى مجالات شتى، فالغالبية من هؤلاء مستبعدين من التحقق بالفعل الذاتى والوطنى محبطين بسطوة الفساد والمحسوبية والمصطلح البغيض «غير لائق اجتماعيا»! وقوة المقولة سيئة السمعة «انت عارف أنا ابن مين؟!»، مضافا إليها عدم الإيمان بالطاقات والقدرات الهائلة الكامنة وسط أبناء هذه الطبقات الشعبية والقادرة على تحقيق المعجزة.. والتى يتشكك بعض مسئولينا فى نضجهم السياسى والاجتماعى، ويعتبرونهم سبب فشلهم والمعوق الرئيسى أمام نجاح انجازاتهم، وليس السبب سياساتهم الفاشلة المنحازة للقلة مالكة الثروة والسلطة! تذكرت ذلك وسط نشوة الانتصار، وتساءلت ألم تفقد مصر (رياضيا) عرشا آخر فى السباحة لأبطال كنا نسميهم «تماسيح النيل» حازوا بطولات عالمية، ومعظمهم كانوا من أبناء شرائح اجتماعية متوسطة وفقيرة، وآخرين كانوا يحوزون بطولة العالم فى الهوكى سنويا، لأنهم أتوا من قرى محافظة الشرقية التى اعتاد أبناؤها لعبة شعبية هى أساس الهوكى (تسمى الحوكشة)، ثم وجدوا من يصقل موهبتهم وينميها ويفتح لهم آفاق العالمية فحققوها.. وتساءلت لو أن من «تأذى نظرهم» فى نادى الجزيرة من (علية القوم) لم يتآمروا يوما لهدم حمام السباحة الذى كان يرتاده أبناء البسطاء فى مركز شباب الجزيرة، المستقطع بفعل (إرادة وانحياز ثورة يوليو وجمال عبدالناصر) لهؤلاء من أجل أن يتنفس فيه أبناء الطبقات الوسطى والبسطاء فى مصر نسائم متعة الرياضة أمام صفحة النهر الخالد ألم يكن من الممكن أن تربى فيه أجيال من أبطال السباحة يحققون لنا فرحة مشابهة (دون مانع طبقى) لما حققه أقرانهم فى كرة القدم؟! وكيف هو حال مراكز الشباب الأخرى فى طول وطننا وعرضه اليوم؟! إن تاريخنا، القريب وليس البعيد يحمل انجازات مشابهة لما تحقق، وفى عشرات المجالات لأن التقدم ليس فقط (كرة القدم)، حين كان الوطن للجميع وبالجميع يحترم تكافؤ الفرص بين أبنائه.. فكان بناء سدنا العالى بسواعد عمالنا، والصمود الجماعى باقتصاد الحرب (وبلا معونة أمريكية) فى السنوات الصعبة، واقتحام المستحيل فى نصر أكتوبر المجيد بصلابة الفعل ويقين الانتماء.. فحين توافرت القيادة واستشعرت جماهير شعبنا العظيم بحسها التاريخى العدل.. كان الانتماء، والعطاء، والانجاز. أنه الدرس الأهم فى هذه الصحوة الكروية ووسط نشوة الانتصار.. لمن يريد أن ترتفع أعلام الوطن فى غير ملاعب كرة القدم. أطلقوا سراح طاقات الشعب المصرى بالقيادة والعدل، واحترام الدور والتاريخ، ومكنوه من الخروج بالوطن من كبوته. وربما أجدها فرصة للانضمام للشعار الدائم الذى يختتم به كاتبنا المبدع علاء الأسوانى مقالاته: (الديمقراطية هى الحل).. فقط أذكر بأنها الديمقراطية الاجتماعية والسياسية معا.