"مستقبل وطن" يحشد جماهير مطاي في مؤتمر لدعم مرشحيه بانتخابات الشيوخ 2025    لمدة 7 ساعات.. قطع التيار الكهربائي عن 12 منطقة في البحيرة    7 شهداء إثر استهداف شقة سكنية في منطقة تل الهوا غرب قطاع غزة    جيش الاحتلال يُحاصر مستشفيين ويقتحم بلدات في الضفة الغربية    ترامب يبرم اتفاقًا تجاريًا مع الفلبين ويفرض رسومًا جمركية على وارداتها بنسبة 19%    جوتيريش: الجوع يطرق كل باب في قطاع غزة    غابارد تنتقد فريق أوباما: تقرير تدخل روسيا "مفبرك" ومحاولة لإسقاط ترامب    صاحبة المركز التاسع بالثانوية: "النجاح بالمحبة والاجتهاد لا بالعبقرية" (صور)    رئيس اتحاد الخماسي يُكرم طالب بني سويف الأول على الجمهورية ب100 ألف جنيه    رئيس "بنك الطعام": نقدم نموذج شمولي فريد بالتعاون مع 5 آلاف جمعية    عيار 21 الآن يواصل الارتفاع.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 23 يوليو في الصاغة    برلماني: «ثورة يوليو» الشرارة الأولى لإرساء مبادئ العدالة الاجتماعية    تعليم البحيرة تهنئ الطالبة نوران نبيل لحصولها على المركز السادس فى الثانوية العامة    جامعة الإسكندرية تستقبل وفد المركز الإعلامي الأوزبكستاني    بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة 2025 .. نصائح لاختيار الجامعة والكلية المناسبة لك    مؤشرات تنسيق الثانوية العامة 2025 أدبي.. الحد الأدني ل كليات المرحلة الأولي 2024 (بالنسبة المئوية %)    كتائب القسام: قصفنا موقع قيادة وناقلة جند إسرائيلية بالقذائف والصواريخ    عبد المنعم سعيد: الاستقرار في مصر والسعودية نتاج قرار وطني ينبذ التفرقة الطائفية    عبدالمنعم سعيد: المنطقة كانت تتجه نحو السلام قبل 7 أكتوبر    عصام سالم: هناك كيل بمكيالين في التعامل مع أزمة فتوح    «الأهلي بياخد الدوري كل أثنين وخميس».. نجم الزمالك السابق يتغنى ب مجلس الخطيب    تطورات الحالة الصحية ل حسن شحاتة.. فاروق جعفر يكشف    رياضة ½ الليل| وفاة لاعب فلسطيني.. صفقة الزمالك «منظورة».. رحيل «عادل» للإمارات.. وأحلام زيزو بالأهلي    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالدرجات علمي علوم وأدبي كليات تقبل من 65%.. ما هي؟    سعر الزيت والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025    لم تيأس بعد عامين من الرسوب.. طالبة ال 4% تحصد 70% في الثانوية العامة بقنا    حزب الجبهة الوطنية: دعم مادي بقيمة 50 ألف جنيه لأوائل الثانوية العامة    لينك نتيجة الصف الثالث الثانوي 2025 بالاسم ورقم الجلوس.. رسميًا الآن عبر الموقع الرسمي ل وزارة التربية والتعليم    الأولى على الثانوية العامة شعبة أدبي ل«المصري اليوم»: «بكيت فرحًا وسألتحق بالألسن»    بعد نجاحها في الثانوية.. سوزي الأردنية تعلن خطبتها قريبًا    النيران اشتعلت في «الهيش».. الحماية المدنية تسيطر على حريق بأسيوط    شخص مقرب منك يؤذي نفسه.. برج الجدي اليوم 23 يوليو    محمد التاجي: جدي «عبدالوارث عسر» لم يشجعني على التمثيل    محمد التاجي: فهمي الخولي اكتشف موهبتي.. ومسرح الطليعة كان بوابتي للاحتراف    الرابعة على الثانوية: تنظيم الوقت سر النجاح.. وحلمي أكون طبيبة    فرصة لإدراك تأثير جروح الماضي.. حظ برج القوس اليوم 23 يوليو    ما حكم الاعتداء على المال العام؟.. أمين الفتوى يجيب    منها السبانخ والكرنب.. أهم الأطعمة المفيدة لصحة القلب    «الإندومي» والمشروبات الغازية.. أطعمة تسبب التوتر والقلق (ابتعد عنها)    بدون أدوية.. 6 طرق طبيعية لتخفيف ألم الدورة الشهرية    الكشف عن بديل الهلال في السوبر السعودي    دروجبا: محمد شريف هداف مميز.. والأهلي لا يتوقف على أحد    أتلتيكو مدريد يتعاقد مع مارك بوبيل رسميا    وساطات بتركيا تسعى لإطلاق سراحه .. إعلام "المتحدة" يُشيع تسليم محمد عبدالحفيظ    بالصور.. صبا مبارك تستمتع بعطلتها الصيفية أمام برج إيفل    أندية سعودية تنافس بنفيكا على ضم جواو فيليكس    نشرة التوك شو| قانون الإيجار القديم ينتظر قرار الرئيس السيسي.. و"الزراعة" توفر الأسمدة رغم التحديات    ب"فستان تايجر".. أحدث جلسة تصوير جريئة ل نورهان منصور تخطف الأنظار    حدث بالفن| زفاف مخرج ونقل زوج فنانة إلى المستشفى وأحدث أزمات حفلات الساحل الشمالي    ما هي كفارة اليمين؟.. أمين الفتوى يجيب    اعتماد أولى وحدات مطروح الصحية للتأمين الشامل.. وتكامل حكومي - مجتمعي لرفع جودة الخدمات    أهم أخبار الكويت اليوم.. ضبط شبكة فساد في الجمعيات التعاونية    هل يجوز الوضوء مع ارتداء الخواتم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    محافظ شمال سيناء يفتتح "سوق اليوم الواحد" بالعريش لتوفير السلع بأسعار مخفضة    انطلاق المبادرة الوطنية للتطعيم ضد السعار من الإسماعيلية    أدعية لطلاب الثانوية العامة قبل النتيجة من الشيخ أحمد خليل    البورصة المصرية تخسر 12.5 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    حملة دعم حفظة القرآن الكريم.. بيت الزكاة والصدقات يصل المنوفية لدعم 5400 طفل من حفظة كتاب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيقاع المكان في بيت الماء
نشر في محيط يوم 15 - 06 - 2009

في فقرة من أشدِّ الفقرات قوَّة، يصف الراحل الكبير إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" شدّة، التأثُّر الذي تملَّكه وهو يقف على عتبات مدرسة الطفولة؛ هي لقطة وإن أوحت في ظاهرها مفارقة مع العنوان، إنما تؤكد العلاقة الحميمية التي تربط الفرد بالمكان؛ علاقة ذات صلة بجوهر الكينونة؛ المكان بوصفه جزء من الهوية؛ ولئن عالج صاحب الإستشراق علاقته من الخارج بالمكان بلغة نثرية لم تخل من جمالية شعرية، فإن منذر العيني يستقصي أثر المكان وروحه في ذاته من الداخل عبر مقاربة شعرية بالأساس، وإن تعددت أسماء المكان في "بيت الماء" فهي في الآخر مسمّى لاسم واحد هو رؤيا الشاعر التي، وإن نهضت على ترسيخ الفكرة المتداولة لأهمية المكان في تشكيل ذات الفرد، فإنها تسلّط الضوء بالأساس على ذلك المكان المهجور، المنبوذ، المتروك في الخلف وهي في الآخر تنهض على الاحتفال بجمالية المقصي المهمَّش من الأمكنة وعناصرها.
يطيل الشاعر الوقوف عند الأمكنة الرابضة بعيدا عن الأضواء؛ عند أطراف المدينة؛ في الأحراش؛ في القرى المهملة؛ أو تلك البقاع في الأرياف النائية "سباخ سيدي الهاني" "فلوات لمطة" "جبل زغوان" "وادي بوبازين" "جردة سوسة" "سوسة القابدجي" "باب أرناز" "نهج تريبونال" "الحفصية" "القصيبة" "حانة الفينيقي الصغير" "أسباط سوسة..". الخ. يجوس الشاعر خلال هذه الأماكن، يطوف بأركانها يتملَّى تفاصيلها ينفض عنها غبار السنين بما يتهجاه بين زواياها، وإذا بها تهتف بهيجة مأهولة حافلة بالدَّهشة؛ تنبض بالحياة السخية، بل لعلها مصدر الحياة الحقيقية منبع الدفق المتنامي للكينونة:
" أسألوا وادي بوبازين؛ الفينيقيون القدامى غسلوا الصوف تركوا رغوة الحكايات" ص155
" نهج التريبونال يشبك خطواتنا نتقاسم معه ضائقة البوصلة" " أمام ندى دهشتي من بيوت اليمام بجردة سوسة إذ تتلوى على نغمة الموج، استل منها معاجم بادت وأنثرها للرياح" ص14
"تغمس حرباءها كي تشق بها الملح تلعقه من سباخ سيدي الهاني" ص130
"كهمهمتي تقبل الريح من فلوات لمطة" لمتيس "تؤازرني نحو جبانة الغرباء" ص144
ثمَّة هنا هوس وجداني بالمكان، والأكيد انه نتاج قراءة متأنية مثقفة متأثرة خاشعة؛ هوس يجد مسوغاته في ما تتوهج به هذه البقاع من جمال خفي؛ جمال لن يجيد الإفصاح عنه غير الشاعر الذي لا يتعامل معه من الخارج ويصوره بكاميرا السائح أو بعين العابر، بل ينقله وفق ما يفعله في داخله ويرسمه حسب ما ينفعل به وجدانه؛ هو يرسمه فعلا، يرسمه بغير أدوات رسم قيس الأراضي وبغير فرشاة الرسام الانطباعي؛ هكذا هو هذا النص يندفع في اتجاه غير محسوب من قبل "القفز في المجهول"، إنه على الحافة بين الشعر والرسم يستنفر جميع الحواس لتتقاطع عنده الصورة الشعرية مع اللقطة التشكيلية وهو ما سيؤدي إلى نسف المرجعية الثقافية الجغرافية المعهودة للمكان، وسيبدو كما لو أنه على غير صلة بالمرجعية التوبوغرافية التي ينتمي إليها.
يفقد المكان هنا إحداثياته المعهودة ليتحول أسطورة، وهو كذلك طالما أن الشاعر يرصد اللحظة المكانية من زاوية مختلفة تماما من جهة ما تفعله في الذات؛ مازجا الحاضر بالماضي بالآتي، وهو ما جعل نص العيني على الحافة نصا يكاد ينفلت عن التصنيف ولكنه في الآخر شعر؛ شعر يعتمد الوثيقة التاريخية ويتوسل الأسطورة وهو يراهن على السرد كعنصر من عناصر الإرواء الشعري في ما يتوفر عليه من إمكانات لتشكيل الصورة بتقنية مختلفة، وما يتوفر عليه من موتيفات لتحقيق وحدات إيقاعية لئن بدت مرتكزة على التفعيلة أحيانا فهي في مواضع أخرى تتحقق من خلال تنامي الصورة وتموقع المفردة ضمن السياق الواردة فيه؛ ولعل البورتريهات التي اشتغل عليها الشاعر والتي وإن جاءت لترفد قيمة المكان بما أنها عنصر حيوي وغريزي فيه، فهي تعزز الرؤيا التي تمجد المهمش وتعلي قيمته؛ هذه الشخصيات المقدودة عجينا من الغبار والعرق اليومي يرسمها الشاعر بعين شغوف ترصد أدق التفاصيل فيستجلي خفاياها محدقا في باطنها بما هو وقود لحركة الظاهر.
بائع القهوة:
"تبدأ ناعورة الرجل الحامل القهوة العربية المشتهاة أناولها بائع الطفل.. أناولها لجنية الصوت تلغو فتات البياض فتاتي" ص125
الإسكافي:
"نافذتي مثل إشارات إلهية، قبتها دارة إسكافي، باب البحر لا يعنيه غير الرتق في صمت الكلمات" ص146
المسافر:
"الدغل أشجار من ألوان الخاطرة والباهت الأهبل لون أزرق يصمغ بحة المسافر" ص77
القطط:
"قطط كعرائس شمس اوسو يجمعن أخيلة البحر من رجل خاسر" ص80
هذه البرورتريهات ليست أطيافا وليست أخيلة وليست شخصيات من صنع خيال الشاعر، إنها كائنات حقيقية تمارس عيشها اليومي لم يعمد الشاعر الى التقاطها بآلة التصوير الفوتوغرافي فهو غير معني بالصفات الخِلقية والخُلقي، إنما عمل على استقصاء تأثيرها في تشكيل المكان من خلال حضورها الحيوي البارز ضمن أوركسترا سمفونية المكان، ورغم ما قد توحي به هذه الشخصيات من دونية بحكم موقعها في سلم التراتب الاجتماعي، لكنها في حقيقتها هي جوهر حركة المكان ونضارته وتدفقه، بل ان الشاعر وهو يتأملها ويرسمها بهوسه الوجداني سيرى انها صدى لحركة التأريخ وانها خلاصة مجده أيضا فهي تحمل في دواخلها تركة أولئك الذين مروا "هسّة سركون بولص" "ريقي بوب مارلي" "اسطرلاب بشار" "هيأة طاغور" "شحاذ محفوظ"... الخ.
غير أن المزيّة الأهم للمكان كما يراها منذر العيني وهي أيضا حقيقة لن يجادله فيها الكثيرون، إن المكان لا يموت يلوذ صاحب "ظلال المسافة" بالمكان هربا من الموت. ولئن لا تكاد قصيدة تخلو من الموت في "بيت الماء" فإنَّ حضور المكان يطغى عليه كما لو أنه يهزمه.
"الجهات الأربع التحام الحب بالوداع المرّ أبدية لا تتسمّى، فابق حيث شاء الزعتر البري وجاءتك نحلاتك الخضراء كتابة الحضور على جبين النسيان" ص40
"أرواح الوديان لا تموت" ص55
"الموت مأهول بالصدفة" المسافرة في ثنايا العشق" ص56
تدشن ثنائية الموت / المكان، لحظة الخروج من أزمة القدر الذي لابد منه، قدر الموت الذي لابد منه، موت لا فرار منه، موت متربص ولكنه مهزوم بحكم سلطة المكان، هذا المكان يجوس منذر العيني أركانه وزواياه الخبيئة بعكازته التى ليس له فيها مآرب أخرى غير البقاء وغير حب الحياة؛ هي لحظة صراع لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد، ولكنه يبدأ هذه المرة شعريا وإن كان أوليس قد طوَّف العالم من أجل كسر شوكة الموت، فابن حضرموت يطوف بالأنحاء المنسية بحثا عن زاوية يهزم فيها لذات هازم اللذات، وسيبدو هذا الصراع جليا من خلال ما حاول الشاعر أن يرسيه من بؤر سردية ذات ذرى درامية سرعان ما ينسفها لصالح مقاربة مختلفة الاسلوب والنمط، وهو ما أدى إلى انبثاق خلايا إيقاعية مبثوثة بين مختلف القصائد لا تجهر بموسيقاها بقدر ما توحي بتناغمها، فتتحول إلى طاقة داخلية تدفع النص إلى التقدم، وقد شغلت الشاعر اللغة المستلة من البلاغة القديمة فارتأى أن يتعمد أحيانا مفردات البلاغة الفخمة، وهو، وإن أكد صلة الشاعر بالموروث اللغوي في متنوعاته ومشتقاته، غير أنها أضرت بالمناخ العام للنص وهو ما لن يقلل من أهمية هذا الإصدار الشعري، خاصة وانه تضمن لقطات متفردة في روحها وإيقاعها من مثل:
"ماتت أمي على عشبة زيتونة مهملة / فوضعت على كفها زهرة/ لكن النسر خطفها وأمي تحركت/ فرحت بها لأنها تحركت / لكن النسر رجع بتلك الزهرة / وأمي رجعت لا تتحرك /
لعل هذه القصيدة من أقوى ما في هذه المجموعة لما فيها من انسيابية ومن صراع بين المكان والموت وبينهما الشاعر بعكازته التي إنما هي في الآخر الشعر... المجموعة الشعرية "بيت الماء" منذر العيني. دار النهضة بيروت. لبنان 2009.
** منشور بصحيفة "المستقبل" اللبنانية 15 يونيه 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.