وزير الخارجية: مصر تتبنى نهجًا شاملًا في ملف حقوق الإنسان    وزير الخارجية: سنرد بالقانون الدولي على أي ضرر من سد النهضة    وزيرة التنمية المحلية ومحافظ بورسعيد يتفقدان أولى مراحل الكورنيش السياحي    الكهرباء تكشف خطوات فحص وتغيير عدادات الاستهلاك    قرار هام مرتقب للبنك المركزي يؤثر على تحركات السوق | تقرير    غزة والسودان والحقوق المائية، وزير الخارجية يكشف خطوط مصر الحمراء بعدد من الملفات    صحيفة إسرائيل اليوم: لقاء نتنياهو وترامب المرتقب سيختتم بإعلان المرحلة الثانية من اتفاق غزة    استشهاد فلسطيني وإصابة 3 آخرين في بيت لاهيا    موعد المران الختامي لمنتخب مصر استعدادا لجنوب أفريقيا    الكيك بوكسينج يعقد دورة للمدربين والحكام والاختبارات والترقي بالمركز الأولمبي    ضبط استوديو تصوير فيديوهات برامج وإعلانات بدون ترخيص بالتجمع الأول    ضبط ورشة لتصنيع الأسلحة والذخيرة في قنا    الداخلية تضبط أكثر من 13 طن دقيق فى حملات على المخابز السياحية والمدعمة    الصحف الصينية: زيارة رئيس جامعة القاهرة إلى بكين تعزز التعاون الأكاديمي والبحثي    الصور الأولى لقبر أمير الشعراء أحمد شوقي بعد إعادة دفن رفاته في «مقابر تحيا مصر للخالدين»    السبت.. استضافة الخبير الإسباني العالمي خوسيه فرنانديز بمجمع السويس الطبي للكشف الطبي المجاني    الصحة تعلن اختتام البرنامج التدريبي لترصد العدوى المكتسبة    توقيع اتفاق لتحويل مصر إلى مجتمع معرفي مبتكر مستدام    أحمد البطراوي: منصة "مصر العقارية" الذراع التكنولوجي لوزارة الإسكان وتستوعب مئات آلاف المستخدمين    التشكيل المثالي للجولة الأولى في كأس الأمم الإفريقية.. صلاح ومرموش في الصدارة    «مدبولي»: توجيهات من الرئيس السيسي بسرعة إنهاء المرحلة الأولى من حياة كريمة    التطرف آفة العصر، ساويرس يرد على كاتب إماراتي بشأن التهنئة بعيد الميلاد    المتحدث العسكري: قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة أبريل 2026    «تغليظ عقوبات المرور».. حبس وغرامات تصل إلى 30 ألف جنيه    استقرار نسبى فى اسعار الأسمنت اليوم الخميس 25ديسمبر 2025 فى المنيا    عون: لبنان الجديد يجب أن يكون دولة مؤسسات لا أحزاب    أشرف فايق يطمئن الجمهور على حالة الفنان محيى إسماعيل: تعافى بنسبة 80%    من هو الفلسطيني الذي تولي رئاسة هندوراس؟    توسع النزاع يهدد صادرات النفط…تصاعد الأعمال العسكرية بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي ويؤكد دعم تطوير المنظومة الصحية    أزمة فيديو ريهام عبد الغفور.. رئيس شعبة المصورين بالصحفيين: من أمن العقاب أساء الأدب    بعد زيادة الطعون عليها، توفيق عكاشة يطالب الهيئة الوطنية بإثبات صحة انتخابات البرلمان    فحص نحو مليون من ملفات جيفرى إبستين يثير أزمة بالعدل الأمريكية.. تفاصيل    "الوطنية للانتخابات" تعقد مؤتمرًا اليوم لإعلان نتائج جولة الإعادة للمرحلة الثانية من انتخابات النواب    بالفيديو.. استشاري تغذية تحذر من تناول الأطعمة الصحية في التوقيت الخاطئ    التضامن: تسليم 567 طفلًا بنظام الأسر البديلة الكافلة منذ يوليو 2024    تواصل تصويت الجالية المصرية بالكويت في ثاني أيام جولة الإعادة بالدوائر ال19    عبد الحميد معالي ينضم لاتحاد طنجة بعد الرحيل عن الزمالك    نائب وزير الصحة تتفقد منشآت صحية بمحافظة الدقهلية    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 25ديسمبر 2025 فى المنيا    الأزهر للفتوى: ادعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها خداع محرم    بشير التابعي يكشف عن الطريقة الأنسب لمنتخب مصر أمام جنوب إفريقيا    أمن القليوبية يكشف تفاصيل تداول فيديو لسيدة باعتداء 3 شباب على نجلها ببنها    وزيرا التضامن و العمل يقرران مضاعفة المساعدات لأسر حادثتى الفيوم ووادى النطرون    بديل حضاري وآمن ومرخص.. بدء تنفيذ مبادرة استبدال التوكتوك بسيارات كيوت صغيرة بالقاهرة    وزير الثقافة: المرحلة المقبلة ستشهد توسعًا في الأنشطة الداعمة للمواهب والتراث    طقس الكويت اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025    حكم تعويض مريض بعد خطأ طبيب الأسنان في خلع ضرسين.. أمين الفتوى يجيب    هل يجب الاستنجاء قبل كل وضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الخميس 25 ديسمبر 2025    بطولة أحمد رمزي.. تفاصيل مسلسل «فخر الدلتا» المقرر عرضه في رمضان 2026    بعد غياب أكثر من 4 سنوات.. ماجدة زكي تعود للدراما ب «رأس الأفعى»    أحمد سامي يقترب من قيادة «مودرن سبورت» خلفًا لمجدي عبد العاطي    صفاء أبو السعود من حفل ختام حملة «مانحي الأمل»: مصر بلد حاضنة    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجربة إطلاق صاروخ "سطح-جو" بعيد المدى    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    الكاميرون تفتتح مشوارها الإفريقي بانتصار صعب على الجابون    دوري أبطال آسيا 2.. عماد النحاس يسقط بخماسية رفقه الزوراء أمام النصر بمشاركة رونالدو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة اكتشاف" عبدالله البردوني
نشر في إيجي برس يوم 18 - 10 - 2011


قراءة: محمود صلاح سلام
(1)
قراءة الشعر تتعدد لا من حيث المناهج و المدارس النقدية والأدبية ،بل مع ذلك من حيث الزاوية التي ينظر منها القارئ فيما يقرأ،وأيضا من حيث الامتزاج مع ما يُقرأ والتماهي فيه ،وأنا أحب البردوني ولا أرى في هذا الإعلان ما يخالف المنهج أو ما ينقص من قيمة القراءة ،وحبي هذا جعلني أتحير :من أين أبدأ مع هذا العملاق؟ وما المنطقة الساخنة في شعره ؟أقصد عم أتكلم وعم أسكت وكل ما في شعره أهل أن يُتحدث عنه؟بعد قليل من التروي اقترحت أن أدخل في رحلة اكتشاف للبردوني من خلال المفارقة في شعره،فكانت هذه القراءة.
يشير مفهوم المفارقة إلى الأسلوب البلاغي الذي يكون فيه المعنى الخفي في تضاد حاد مع المعنى الظاهري. وكثيراً ما تحتاج المفارقة وخاصة مفارقة الموقف أوالسياق، إلى كدّ ذهن، وتأمل عميق للوصول إلى التعارض، وكشف دلالات التعارض بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الغائص في أعماق النص وفضاءاته البعيدة.المفارقة:paradox في تعريف مجمع اللغة العربية ،هي عبارة متناقضة في ظاهرها مقبولة المعنى في حقيقتها ،وقد تتضمن الطباق مثل :"اتق شر من أحسنت إليه " وقد أصبحت المفارقة اللفظية من الخصائص البلاغية للشعر في نظر مدرسة النقد الجديد الأنجلو أمريكية في الخمسينات والستينات ،إذ جعلها كلينث بروك أساسًا للغة الشعر" [1]، إن المفارقة ظاهرة أساسية في الطبيعة الإنسانية بل في كل الطبائع ،وتكاد تكون سلسلة التقابلات في الكون هي أبرز المرائي ،فلا أول إلا وله آخر ،ولا أصغر إلا وله كبر ،ولا حياة إلا ويرافقها موت ،ثنائية الأضداد متوالية في الحياة ومن اهم سماتها ،
واذا كان التباين الحاصل بين موقفين يولد نوعا من الرفض المضمر، او الساخر، من خلال قدرة المتلقي على معرفة الحقيقة بوصفه عنصر تمييز وفرز بين موقفين مختلفين، فان المفارقة- وفقا لذلك- تشكل منطلقا للتعبير عن الحياة بما يجعل الخيرة عرضة لتفسيرات شتى لايكون واحد منها فقط هو الصحيح[2]
و"إن المبدع عادة ما يضع نفسه في رؤيته لمفردات عالمه في منطقة وسطى ،وعلى هذا النحو يتمكن من الرؤية المزدوجة ،فما إن يقع الإدراك على وجه معين حتى ينجذب إلى الجانب الآخر "[3] بالرغم من أن هناك من يرى أن المفارقة من الصعبة بمكان وضع تعريف محدد ودقيق لها ،فهذه المحاولة ،في نظرهم ،تكون أشبه بالإمساك بالضباب [4] بالرغم من ذلك تبدو المفارقة وسيلة أسلوبية تولد فائضاً شعرياً من جهة, وتضبب شاشة التلقي الواضحة, عندما تكسر التوقع, بمراوغة الخطوط المستقيمة الرابطة بين الدال والمدلول ،والأثر والمرجع ،بإقامة علافات مفاجئة وغريبة ،وتخلق فجوات تتربص بها التداعيات الغيبة والمضامين غير المتوقعة ويتأتى إبداع المفارقة من أنها تعبير لغوي بلاغي ترتكز أساسًا على تحقيق العلاقة الذهنية بين الألفاظ أكثر مما يعتمد على العلاقة النغمية أو التشكيلية ،"إنها لا تنبع من تأملات راسخة ومستقرة داخل الذات، فتكون بذلك ذات طابع غنائي أو عاطفي ،ولكنها تصدر أساسًا عن ذهن متوقد ،ووعي شديد للذات بما حولها "[5]
المفارقة استخراج لمكنونات المراوغة باللغة ،وتعليق للقارئ في فضاءات ظاهر النص وباطنه ،وللمفارقة سمات ،كما حددتها د.نبيلة إبراهيم :
1. وجود مستويين للمعنى في التعبير الواحد :المستوى السطحي للكلام على نحو ما يعبر عنه ،والمستوى الكامن الذي لم يُعبر عنه ، والذي لا يلح القارئ على اكتشافه ،فالقارئ شريك أساسي في صنع المفارقة
2. لا يتم الوصول إلى إدراك المفارقة إلا من خلال إدراك التعارض أو التناقض بين الحقائق على المستوى الشكلي للنص الذي يعتمد على التلميح الخفي والاشارة المعتمرة التي تدفع المتلقي/ القارئ/ المستمع الى التبرم واثارة روح النقد وربما الرفض، عبر استخدام النكتة والعبارة الساخرة. وهذا النمط من التعبير يحتاج الى سرعة البديهية، والجملة القصيرة، والعبارة الواضحة المفهومة، مع افتراض عنصر ثالث يربط بين متناقضين، او موقفين، او حالتين من التفكير، ذلك لان المفارقة تقوم على التعارض والتناقض بين المظهر والحقيقة، وهي تشمل دالا واحدا ومدلولين اثنين: الاول حرفي ظاهر وحكي. والثاني متعلق بالمغزى، موح به، خفي، وتعمل هذه العلاقة في دائرة المسكوت عنه، لتخلق لنا جنسا ادبيا اخر هو النكتة، لان المفارقة تولد الضحك[6]
3. غالبًا ما ترتبط المفارقة بالتظاهر بالبراءة ، وقد يصل الأمر إلى حد التظاهر بالسذاجة أو الغفلة .
4. لابد من وجود ضحية في المفارقة ،قد يكون الكاتب ،وقد يكون المتلقي ،وأيًا ما كان فهي ضحية متهمة بريئة وتدعي في نفس الوقت لنفسها ما هو مبالغ فيه على سبيل الافتراض فحسب[7]
هذا عن المفارقة بصفة عامة ولكن المفارقة في الشعر , ندخل مع هذا الشعر في مستوى تكويني جديد يصوغ الشعر بطريقة مألوفة, وعبر صيغ تزدوج فيها الخبرة الشعرية بالخبرة الكلامية, فتتولد لدينا صيغة شعرية مثيرة للدهشة, تحيل المجازي إلى اليومي, وتصير له تضاريسه الخاصة عبر بناء الموقف الصادم للتوقع, الذي ينبثق بفضل خبرة ومهارة شعريتين.
وهذا يصل بنا إلى تمثل كثافة جديدة, يومية ومعاشة, وموازية في فعلها الجمالي للكثافة المجازية, وجعل ضربة القصيدة الأخيرة تقوم على التوتر المفتوح أو المستمر , إن صح الوصف. شعرية المفارقة تتبدى من هذه الصياغة الجديدة التي ترنو إلى المعنى العميق وترفض المعنى السطحي أو تراوغ به في أحسن الحالات تخرج عن رتابة النظم الإيقاعي والتركيب العادي ولكن ليس مجرد الخروج على رتابة النظم الإيقاعي, أو تحقيق درجة إيقاعية عالية, ولا التموجات التركيبية المنزاحة عن النمطي كالتقديم والتأخير, وتكثيف التراكيب النحوية أو تشتتها بما هو قادر على الخروج عن قواعد الاختيار المألوفة في المستويات المعجمية, والتركيبية, والاسنادية هو ما يحقق شعرية القصيدة في هذا البناء الشعري بل تتحقق شعرية المفارقة عبر الاستعانة بلوازم التعبير الكنائي الذي اقترب بشدة مع الشعر الحديث من القصيدة اليومية, ونبرتها الواقعية, وغادر الأطر البنائية المجازية المقصودة لذاتها إلى فواعل بنائية أشد غوراً. وحين تكون المفارقة دالاً نسيجياً, أو بنائيا فإنها تقوم على إدراك مافي النص من تناغم وانسجام, وتخبئة التباين والاختلاف لمنح النص دينامية عالية.
إن حس الشاعرعبدالله البردوني بالمفارقة لا يقتصر على رؤية الأضداد ووصفها في إطار المفارقة، بل في قدرته على إعطائها صورة في الذهن أولاً، ثم مطاردتها في الحياة والواقع. عندها يستطيع أن يتفاعل مع ما يحدث في الواقع ضمن مفهوم المفارقة. ليس كل شاعر يستطيع أن يتلبس فلسفة المفارقة، فهي ليست لباس خارجي، بل فلسفة ونظرة جوهرية ويوزع مفارقته الشعرية بين الاندهاش والتعجب والسخرية وعلامات الاستفهام وأحياناً الهجوم المباشر. وكثيرا ما يقترب هذا الاسلوب من التقابل والتضاد الذي شاع في القصيدة العربية القديمة لكنه ينأى عنها في كون الشاعر القديم ركز على الجمع بين الاضداد حسيا في اطار البيت الواحد بينما اعتمد الشاعر الحديث على العناصر الشعورية والنفسية ليعبر عن الصراع والاضطراب اللذين يسودان المجتمع بعد مفارقته كثيرا من الاوضاع الروحية والفكرية التي طرحها الشعراء قبله فولج الى حياة اتاحت له اشياؤها جميعها بكل تناقضاتها المدهشة الشاملة الرؤيا على نحو شكلت وعيه لها.تتكثف بلورات صوره الشعرية، وتترشح عبر ركني المفارقة(التضاد)، بتفاصيل الحياة اليومية، وتمتزج بألوان الأشياء، وملامح الأماكن، ونبض الشوق والحنين غير المنتهي للوطن. تضعنا شعريته عند مفازة التأمل، وسواحل الإبحار نحومحيط الإنسان اللا منتهي، بها نقطع مسافة الألم والشوق والدهشة بعد أن تتركنا في لجة التأمل والانفعال وتعود إلى أرض الساحل (الواقع) وحدها.واستخدام البردوني للمفارقة تسمح بطرح الكثير من الافتراضات التي يطرحها ادب المفارقة، وهو يتذرع باسلوب السخرية والتندر، ويتوسل بلغة قادرة على التعامل مع الحياة اليومية للناس وطبيعة تفكيرهم [8].
(2)
منذ الوهلة الأولى ومن القصيدة الأولى تظهر المفارقة في ديوان "وجوه دخانية في مرايا الليل "[9]والتي تحمل عنوان بين الرجل والطريق وهذه الثنائية هي البؤرة التي تتركز فيها أو تتجمع عندها أطراف المفارقة في كل القصيدة :
كان رأسي في يدي مثل اللفافة
وأنا أمشي ..كباعات الصحافة
وأنادي :يا ممرات ،إلى أي
ن تنجرّ طوابير السخافة ؟
يا براميل القمامات ،إلى
أين تمضين ؟إلى دور الثقافة .
فالاستفهام الذي يبتدر القارئ :ما العلاقة بين الرجل والطريق سرعان ما يتداخل مع هذه الاستفهامات التي تصنع المفارقة بين (رأسي في يدي ) و(إلى أين تنجر طوابير السخافة) ،(يا براميل القمامة إلى أين تمضين ؟)تتضافر هذه الأسئلة مع الإجابات غير المنطقية التي تسير في اتجاه توليد المفارقة (إلى دور الثقافة ) هذه المفارقة المتولدة من اسئلة مشبعة بالحيرة ،مُتعبة من كثرة السير في طريق الغموض ،ساعية لإلى معرفة تأتي عن طريق التعجب والتندر من هذه الحال ..
كل برميل إلى الدور..؟نعم
وإلى المقهى ..؟جواسيس الخلافة
ثم ماذا ..؟ورصيف مثقل
برصيف ..يحسب الصمت حصافة
إنها حالة الترقب الماثلة دائمًا ،وحال الخوف من جواسيس الخلافة ونهاية المقطع التي تأخذ صياغة المفارقة إلى ذروتها حيث الرصيف مثقل برصيف يحسب الصمت حصافة في حين أن الكلام هو المطلوب ،وأن إعلاء الصوت هو المأمول ..لكن هيهات ...
ها هنا قضف ..هنا يهمي دم
ربما سموه توريد اللطافة
في استخدام الاسمية (القصف) واستخدام الاستمرارية في (يهمي دم)ثم استخدام الثبوت بالفعل الماضي (سموه)في هذه الاستخدامات تتبدى مفردات مفارقة أخرى ..تنضم إلى المفارقة الأولى ...وتظهر صورة استهانة القصف بالدم بل وإظهاره في ادعائه بأنه توريد للطافة كوجه آخر من وجوه المفارقة .
نتيجة هذه الصورة الممتدة من الاضطراب والحيرة والتي تعلو نبرتها في هذه الصرخة الختامية لهذا المقطع :
لا فضول يرتئي ...لا خبر
خيفة كالأمن .....أمن كالمخافة
صورة للخيفة التي تبدو كالأمن حيث لا فضول يرتئي وأمن كالمخافة حيث لا خبر
في القصيدة التي تحمل عنوان (زامر القفر العامر ) الذي يعتبر عنوانًا للمفارقة فالقفر خراب،والعامر يناقض هذا الخراب ثم أن يكون لهذا القفر زامر تعبير كنائي مضبب بالسخرية ،ومغلف بالمفارقة.
وفي أبيات القصيدة تتمطى هذه المفارقات ، وتتجمع..
لأن حروفك عُشبية
كعينيك يا بنّي الاهتمام
تزمر للسهل كي يشرئب
وللسفح كي يخلع الاحتشام
وللمنحنى كي يمد يديه
ويعلي ذوائبه للليمام
وللشمس كي تجتلي أوجهًا
دخانية ،في مرايا الظلام
فهذا الزامر له هذا الأثر من التحويل ،للسهل أن يشرئب ،وللسفح ان يخلع الاحتشام وأن يستطيع المنحنى كي يديه ويعلي ذوائبه لليمام ،هذا الأثر المفارق أو الصانع للمفارقة في الفعل باستخدام اللغة الرامزة التي تستمر في بقية أبيات القصيدة التالية حتى تنتهي القصيدة المشعة بالدلالة والتي لعبت المفارقة دورًا أساسيًا فيها ..
لأن بقلبك صوم الحقول
تغني لتسوّد صفر الغمام
هواك اعتناق الندى واغصون
لأن غرامك غير الغرام
تموت أسًى ،كي تشيع الاسرور
تغني وأنت قتيل السلام
فهذه التناقضات التي ترتئي للزامر إلا أنه لا يكف عن الغناء والشدومع هذه الوجوه المتقابلة ،
فغرامه غير الغرام ..
ويموت أسىً ...كي يشيع السرور
ومع ذلك يغني ..وهو قتيل السلام
إن المفارقة هي الخاصية الأولى للدراما، فالفعل يفترض فعلاً نقيضاً تجاهه. وهذا الشكل من صراع المتغيرات وجدلها، يمثل في الأساس لحمة الدراما ومداها. وتعد المفارقة من هذا المنظور صورة من صور الصراع وهو أحد العناصر الأساسية لكل نص له الطابع الدرامي فيبرز هذا الصراع على عدة مستويات إما بين الفواعل السردية ، أو بين الفاعل مع نفسه، ويتخذ من ذلك صوراً متنوعة تختلف بحسب توظيف عناصر السرد وتقنياته.[10] وقصيدة مأساة حارس الملك أخذت في بائها السرد الادرامي او الطريقة الدرامية وتوفرت لها عوامل متعددة تقيمها دراما اتخذت من المفارقة صورة الصراع البؤرية فهي قصة القمع التي تربط الحارس بالملك من ناحية والملك بشعبه من ناحية أخرى حتى تأتي لحظة يستطيع فيها الحارس أن يتخلص من القمع السلطاني
إمض يا جندي ومزقهم ..نعم
فرصة أخرج ،أرمي السلطنة
أُشعر الثوار أني منهمو
سوف تبدو سيئاتي حسنة
إنه هنا يعرض للثوار التناقض والصراع الذي يعانيه فهو منهم
لست من عائلة الأسياد يا
أخوتي ،إني مثنى (محصنة)
إنني سيف لمن يحملني
خادم الأسياد كل الأزمنة
وهي قمة اللحظة الدرامية التي تتبدى فيها المفارقة بين ما يريد الحارس وما يُفرض عليه من السلطان لكن تنتصر إرادة الحارس برغم العقبات وبرغم أن القصة قد تبدو معادة ومكررة أو عادية
سادتي عفوًا ! ستبدو قصتي
عندكم عادية .ممتهنة



[1] ) معجم مصطلحات الأدب ج1 مجمع اللغة العربية .مصر .1428 ه /2007م
[2] ) د. شاكر عبد الحميد: الفكاهة والضحك ، عالم المعرفة ع (289)، (الكويت،2003م):ص58.
[3] )د.محمد عبد المطلب ،ظواهر تعبيرية في شعر الحداثة .مقال بمجلة فصول .مصر. عدد ديسمبر 1989م .ص 68.
[4] ) د.سي. ميويك المفارقة وصفاتها ترجمة :د.عبد الواحد لؤلؤة ضمن موسوعة المصطلح النقدي ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر .بيروت .لبنان .ط1 1993م .
[5] ) د.نبيلة إبراهيم .المفارقة .مقال بمجلة فصول ،عدد سبتمبر 1987مص 132.
[6] ) ). التفاعل النصي (التناصية lnterex tuality) النظرية والمنهج: نهلة فيصل الاحمد، كتاب الرياض (104) مؤسسة اليمامة الصحفية (الرياض، 1423 ه): ص290
[7] ) د.نبيلة إبراهيم .المفارقة ص 133.
[8] ) د.سي. ميوميك: المفارقة، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، ص15.
[9] ) الديوان ص5
[10] ) محمد صالح المحفلي ، المفارقة ودرامية السرد في شعر البردوني ،الجمهورية اليمنية ، الأحد 27 سبتمبر-أيلول 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.