ثقافة الديمقراطية د. مصطفي علوي تتعدد ركائز الديمقراطية فيما بين الانتخابات الحرة النزيهة علي المستويين المحلي والوطني, والتعددية الحزبية الفعالة, والتنافس الحر علي الوصول إلي السلطة, واستقرار مبدأ الفصل بين السلطات مع توازن حقيقي فيما بينها يؤدي إلي عدم طغيان السلطة التنفيذية, والاستقلال الفعلي للقضاء, واللامركزية كأساس للإدارة المحلية, والمشاركة الفعالة للمواطن في الحياة العامة استنادا إلي علاقة ثقة بين المواطن والدولة, وسيادة مبدأ الشفافية وحرية تداول المعلومات والإفصاح من أجل مكافحة الفساد, وقيام النظام العام للمجتمع علي مبدأ سيادة القانون وأن الجميع أمامه سواسية, واحترام حقوق الإنسان وحرياته المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي هذا الإطار يجب التأكيد علي أن المجتمعات تتفاوت فيما بينها من حيث درجة التقدم علي مسار الديمقراطية بركائزها سالفة الذكر, بل أن المجتمع الواحد قد يحقق تقدما أكبر نسبيا في واحدة أو أكثر من هذه الركائز عما يحققه في بعضها الآخر. ولكن الحقيقة أن المجتمع حتي يصير ديمقراطيا يكون عليه ان يحقق تقدما مطردا وحركة إلي الأمام وإن تم ذلك بدرجات متفاوتة علي مسارات تلك الركائز جميعا. وهنا ينبغي التأكيد أيضا علي أن الديمقراطية هي بالأساس سلوك وممارسة, فلا يكفي ان تكون هناك نصوص في الدستور تؤهل المجتمع لبناء ديمقراطي, نعم وجود هذه النصوص ضرورة كنقطة انطلاق ولكنها لاتترجم تلقائيا إلي واقع, بل هي تمر بمراحل منها أن تتحول إلي نصوص تشريعية علي نفس درجة وضوح وإيجابية نصوص الدستور فيما يتعلق بركائز الديمقراطية المذكورة اعلاه, فكثيرا مانجد نصوصا دستورية مهمة وأحيانا رائعة ولكنها تربط ممارستها بالقانون الذي يأتي مقيدا للكثير منها, ولاتكفي أيضا نصوص القانون, إذ لابد من مؤسسات وتنظيمات وابنية تعمل علي تعزيز الديمقراطية وحتي البنيان المؤسسي علي أهميته البالغة قد لايقود بالضرورة إلي ديمقراطية حقيقية. فالتعدد الحزبي كمبدأ دستوري ترجم إلي ابنية ومؤسسات حزبية, لكن هذه الأخيرة لم تفلح بعد في ترجمة مبدأ التعدد الحزبي من نص دستوري إلي واقع سياسي وديمقراطي فاعل, والنص الدستوري الخاص بالانتخاب واضح ولكن الناس لاتشارك في الانتخابات إلا بنسبة محدودة للغاية, أي أن هناك فجوة بين النص والفعل. ومرد ذلك كله إلي الثقافة السائدة التي قد لاتكون ثقافة ديمقراطية, ومن ثم فإن ثقافة الديمقراطية قد تكون هي الحلقة المفقودة في عملية التطور الديمقراطي, والمقصود بهذه الثقافة الديمقراطية هو مجموعة الأفكار والقيم والمعتقدات والتصورات التي تشكل للناس طريقة حياتهم وطريقة تفكيرهم, وهي قد تكون قائمة علي فهم للحياة العامة وثقة في النظام العام ورغبة حقيقية في المشاركة والفاعلية وعندها تكون هناك ثقافة ديمقراطية, أو تكون قائمة علي ضعف الفهم وضعف الثقة وضعف الرغبة بما يعني غياب مثل تلك الثقافة الديمقراطية, فإذا غابت تلك الثقافة الديمقراطية التي تؤمن بالتعددية والاختلاف دون تخوين ولاتكفير, والاعتراف بالآخر الداخلي وعدم استبعاده والحوار معه بشكل طبيعي دون ان يهزم الواحد الآخر ولايقضي عليه, والتنافس الحر النزيه السلمي علي مقاعد السلطة, والمشاركة الطوعية الحرة والفعالة في الحياة العامة, إذا غابت تلك الثقافة فليس لنا أن نتوقع وجود ممارسة ديمقراطية حقيقية, ففي هذه الحالة يبقي الواقع السياسي منفصلا عن النصوص والآليات حتي وإن حملت عنوانا ديمقراطيا زائفا. والثقافة عموما منتج مجتمعي, وليست الثقافة السياسية والثقافة الديمقراطية استثناء علي هذه القاعدة, والمقصود بالمجتمع هنا هو مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية فيه, وأهمها الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة والنادي والحزب السياسي والنقابات المهنية والعمالية ومؤسسات المجتمع المدني والاتحادات الطلابية والإعلام, فكل من هذه المؤسسات تقدم للفرد معلومات وأفكارا ومعارف وتصورات ومعتقدات وقيما ومبادئ تتشكل بها نظرته للأمور وطريقة تفكيره فيها ومعالجته لها, وبعبارة أخري فان ادراك الفرد لشئون حياته تقوم علي تلك الأفكار والمعارف والتصورات والمعتقدات والقيم, ثم يتحول ذلك الإدراك إلي سلوك اجتماعي أو سياسي لذلك الفرد, أي أن وراء كل سلوك ثقافة. ونشير في هذا الصدد إلي مسألة مهمة تتمثل في أن الأدوار والتأثيرات التي تباشرها كل من مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية سالفة الذكر تتفاعل مع بعضها البعض لتنتج في النهاية ثقافة مجتمعية قد تكون ديمقراطية أو غير ديمقراطية وقد تقع في منتصف المسافة بين هذا وذاك, ومعني ذلك أن أيا من مؤسسات التنشئة ليس بمقدوره وحده ان يتحدي منفردا ثقافة المجتمع التي تنتجها وتكرسها بقية مؤسسات التنشئة الأخري أي أن الثقافة السياسية هي منتج المجتمع بكامله, وليس لأي من هذه المؤسسات منفردا ان تتحداها أو تغيرها, بل إن كل مؤسسة تنشئة هي في ذاتها نتاج لذلك المجتمع, فإن لم يكن المجتمع ديمقراطيا يملك ثقافة ديمقراطية يكون من الصعب علي أي من مؤسسات التنشئة منفردة أن تكون ديمقراطية الطابع أو أن تنتج ثقافة ديمقراطية. حقا أن الثقافة العامة للمجتمع ومدي ديمقراطيتها أو لاديمقراطيتها تؤثر علي دور كل من مؤسسات التنشئة في هذا المجال, ولكن الصحيح أيضا أن الأمر يجب ان يقوم علي نظرة أكثر تركيبية تري أن ثمة تفاعلا يتم مابين ثقافة المجتمع والثقافة السائدة في كل من مؤسسات التنشئة وثقافة المواطن الفرد, ولهذا يكون مفيدا أن نرصد الوظائف والأدوار التي يمكن ان تلعبها كل من مؤسسات التنشئة في إنتاج ثقافة ديمقراطية بصفة عامة. فالطفل ينشأ داخل أسرته فيكتسب ثقافة ديمقراطية أو غير ديمقراطية, وذلك تبعا لثقافة أبويه, فإذا قامت تنشئة الطفل في الأسرة علي قيم القهر والكبت وعدم المشاركة بالرأي, فإنه يفد إلي مدرسته حاملا طريقة تفكير وقيما لاعلاقة لهما بالديمقراطية, وإذا استمر ذلك النمط من التنشئة والإدارة والتوجيه داخل المدرسة في جميع مراحلها, وإذا لم تكن هناك فرصة لمباشرة أنشطة لاصفية تعين الطالب علي اكتساب معارف وقيم وطريقة تفكير ديمقراطية, وإذا لم يكن نظام المدرسة اليومية يبدأ بطابور للصباح يحيا فيه العلم وتتم فيه أنشطة فكرية من صنع الطلاب أو بمشاركتهم علي الأقل, يكون من شأن ذلك ترسيخ ثقافة الديمقراطية لدي الطالب الذي هو المنتج الأساسي لنظام التعليم, ويمكن ان نسترسل تصاعديا فنعرض لآليات وطرق التنشئة في مؤسسات اجتماعية وثقافية وسياسية أخري, تبني علي مابدأ في المدرسة وتكمله أو تتحداه وتنتفض عليه إذا استطاعت إلي ذلك سبيلا, فما يقال علي الأسرة والمدرسة أن يسحب أيضا علي الجامعة والمسجد والكنيسة والنادي والحزب السياسي والنقابة وغيرها من مؤسسات صناعة الثقافة السياسية. وخلاصة القول أن ثقافة الديمقراطية هي منتج مجتمعي وليست مسئولية مؤسسة واحدة بعينها مهما بدا للناس من أهمية خاصة لبعض المؤسسات في هذا الصدد خصوصا المؤسسات السياسية التي كثيرا ماينسب إليها المسئولية عن صياغة تلك الثقافة السياسية وطابعها الذي لايشجع علي ممارسة ديمقراطية فعالة من جانب المواطنين. عن صحيفة الاهرام المصرية 28/6/2008