مقترحات لتدعيم الدور المصري في إفريقيا د. السيد فليفل مع خطورة شأن النيل فإن المتتبع للفكر السياسي المصري يجد المصريين لا يولون الاهتمام المفترض بالقارة التي ينبع منها النهر, ويخترق قلبها هابطا من الهضبتين الاستوائية والإثيوبية, ميمما شطر مصر, مسوقا بالطبيعة والجغرافيا, ليصنع أول حضارات البشر, وأطولها أعمارا, وأوسعها انتشارا, وأكثر تسجيلا, وأوفرها آثارا, ولعل هذا الفكر بحاجة لكثير من المراجعات فيما يتعلق بخياراته وتوجهاته, حيث تبرز الوطنية المصرية, والقومية العربية, والعقيدة الإسلامية كمحددات ثلاثة لهذا الفكر علي تبادل في الترتيب بين هذا المفكر وذاك, وهنا لا تبرز إفريقيا إلا عند أهل التخصص, كما لو كانت محط تخصص, لا تعبيرا عن واقع قائم يجب أن يعبر عنه أي فكر كان بواقعية وموضوعية. تتعدد مظاهر التفاعل الحضاري بين مصر وقارتها الإفريقية علي نحو بديع, ففي كنائس إثيوبيا المنحوتة في الجبال أثر بين معابد الفراعنة, وفي جدائل الفتيات في القرية الإفريقية وحوض النيل, فضلا عن ملابسهن البديعة التي تجعل إحدي الذراعين حرا, اضافة الي عادات الخفاض الفرعوني, وأنماط متعددة من أدوات الزراعة والأدوات المنزلية, مما يؤكد عمق الرابطة بين مصر وقاراتها. اذا أرادت مصر الحفاظ علي مصالحها وسعت الي تأمينها, في ضوء احتياجاتها المتزايدة للمياه لمقابلة الزيادة المطردة في السكان, فإنه من الواجب أن تجدد الدماء في عروق عملها الإفريقي, عن طريق تأكيد هوية مصر الإفريقية, في إطار جميع برامج العمل الوطني, بدءا من كتاب المدرسة الي أجهزة الإعلام, الي كل وزارة, بحيث تنشأ إدارة إفريقية في جميع أجهزة الدولة في مصلحة أمن مصر القومي ومصالحها الإفريقية, والبداية من إدراك كل مصري أنه إفريقي وعربي في نفس الوقت, وتأسيس دور مصر الإفريقي علي رؤية واضحة مفادها أن مصر ليست في إفريقيا بصدد علاقة خارجية, بل هي بصدد علاقة عضوية, بين الجزء المصري والكل الإفريقي, وأن هذا الكل الإفريقي جامع أيضا لدوري مصر العربي والإسلامي, فعشر دول عربية في إفريقيا, وانشط أدوار مصر الإسلامية في إفريقيا, وهنا فدور مصر الافريقي هو تفاعل مع الذات, وليس دورا خارجيا في إفريقيا, كدور بريطانيا أو فرنسا أو الصين تجاه القارة. الحاصل أن الإقرار بأن مصالح مصر الإفريقية أكبر من أن تعبر عنها وزارة الخارجية أو وزارة الموارد المائية والري, بل هي جماع الأمن القومي المصري, وصون لمصالح مصر المائية والحياتية, التي يجب أن تشترك فيه كل أجهزة الدولة والمنظمات غير الحكومية معا في إطار واحد, ومن ثم ضرورة توفير الفهم الواضح بمسئولية كل مواطن, مسئولا رسميا أم غير مسئول عن هذا الدور, وأنه يبدأ من ترشيد استهلاك المياه, ويمر بحسن معاملة كل إفريقي علي أرض مصر, ولا ينتهي عند مراقبة مياه النيل في كل دول الحوض, أو داخل سفارات مصر الإفريقية, بل إن الفلسفة التي يجب اتباعها تجعل مصالح مصر الإفريقية علي برامج عمل سفاراتنا في الولاياتالمتحدة, والصين, والدول الأوروبية. من المهم إنهاء التنازع الاستراتيجي القائم بين أولويات العمل الخارجي المصري, والتي تدور في وهم أن التركيز المصري في إفريقيا قد يفوت علي مصر مصالحها في الشرق الأوسط, فالحقيقة الكبري أن مصر العربية تتدعم بمصر الإفريقية والإسلامية, وأنه لا مقام للوطنية المصرية, دون تناغم أدوارها الخارجية جميعها, بل إن العمل الوطني الداخلي كله يمكن أن يجد الحلول لكل مشكلاته علي صعيد الأمن الغذائي والبطالة عبر التكامل مع إفريقيا, فثم أرض وماء في السودان يمكن بالتمويل الخليجي أن تحل مشكلة الغذاء العربي والإفريقي فضلا عن مشكلات السودان, فإفريقيا فرص نادرة, ولاشك أنه يصاحبها مخاطر واقعة, والأمر في حقيقته هو مواءمات واختيارات, ومواجهة للتحديات, بروح الإرادة والحزم, وحسن الإدارة وتوزيع الجهد, بما يحقق أهداف الوطن, ومصر القوية إفريقيا, ستكون رائدة عربيا, وقائدة إسلاميا, وتحقق أمنها القومي في ذات الوقت. يسهم تأسيس المجلس الأعلي للشئون الإفريقية في قيادة العمل الإفريقي, والتنسيق بين جميع الأجهزة والوزارات في هذا المجال, فهذا هو السبيل الوحيد لجمع مفردات العمل المصري تجاه إفريقيا في كل تناغم, وكذلك الإبقاء علي ملكية الدولة لقطاعات وشركات معينة ذات صلة بدور مصر الإفريقي, ريثما يتمكن القطاع الخاص من الانتباه لدوره في إفريقيا, بعد ما حل محل القطاع العام في قيادة التنمية, الي جانب تأسيس مبدأ المصلحة المشتركة والجامعة بين مصر والدول الإفريقية الشقيقة, بما يضفي علي هذا الدور طابع الرسالة التي تجابه مشكلات إفريقيا المعاصرة, مثلما كان هذا الدور في الخمسينيات والستينيات استجابة لنداء إفريقيا للتحرر الوطني من الاستعمار والعنصرية, ومن ثم فعلي مصر زيادة برامج التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية, ومجابهة الفقر والجهل والمرض, وأن تقود التقدم التكنولوجي والزراعي الإفريقي, وهنا يمكن لبرامج العمل المشترك, في الأطر العربية والإفريقية, وكذا برامج التعاون الثلاثي والثنائي, أن تنسق في إطار الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والمنظمات الإقليمية, بحيث تصب جميعها في قناة المصلحة المشتركة تلك. من الضروري تنويع أدوات العطاء المصري في إفريقيا, بما يصب في مصالح أمنها القومي, فليس من المنطقي أن تقلص دورها الثقافي, تحت مظنة الخوف من توجيه الاتهام بالارهاب لكل داعية مسلم, بينما جماعات المبشرين تفتح الباب للشركات عابرة الجنسية لتستقر في أرجاء القارة, ومن ثم فدور للأزهر, وآخر للكنيسة المصرية أقدم كنائس العالم, والوحيدة التي تحمل اسم إفريقيا, كذلك يجب أن يكون الكتاب المصري متاحا في دول القارة بلغات شتي, وأن يكون أدباؤها وأساتذتها في كل منتديات القارة, وأن تكلف الجامعات المصرية بأدوار محددة في بلد ما, حسب الحاجة والتخصص, وأن تعبر اتفاقياتنا للتعاون الثقافي والعلمي عن تبادل حقيقي للأساتذة والطلاب, وإجراء البحوث المشتركة في الاتجاه الإفريقي, علي الأقل بنفس قدر التركيز في الاتجاه العربي والأوروبي والأمريكي, إن لم يكن أكثر تعبيرا!. علاوة علي التنسيق مع الأشقاء في كل من المغرب العربي وحوض النيل, بشكل أساسي, والبداية بالسودان وليبيا, ليتكون مجددا المثلث الذهبي, الذي عبر عنه ميثاق طرابلس من قبل, فدون الجوار القريب, والدائرة الضيقة للأمن القومي, لن يحدث انطلاق نحو أية دوائر بعيدة, وفي هذا لابد أن يشعر كل من في إفريقيا بأن مصر موجودة بكثافة في الساحة السودانية, فالسودان هو جماع أمن مصر, وهي إفريقيا المصغرة, فإن سلمت القارة كلها لمصر, وسلمت مصر, إن مدخل مصر الي الاحترام في عالم الدول هو السودان, فإن كانت مرغوبة ومرهوبة فيه كانت في كل مكان كذلك, فإن هانت فيه كانت في كل مكان كذلك. أخيرا وليس آخرا, إعداد كوادر مصرية مثقفة في الشأن الإفريقي, تقود العمل, ليس من نمط الموظفين, ولا الدبلوماسيين الرسميين, بل من ذوي المبادرة والمبادأة, والتفكير والتدبير, والإيمان بمصر والاعتقاد بأهمية صعودها, إن دور مصر الإفريقي يحتاج إلي قائد, ولا أقل من وزير محنك, وسياسي فاهم يدير فريق عمل مبدعا, يكون الوطن في عقله حاضرا, والله في قلبه متيقنا, بمثل ما يكون ماء النيل في فمه عذبا صافيا. عن صحيفة الاهرام المصرية 23/6/2008