رواد الاصلاح السياسي الاسلامي: الافغاني.. البنا.. الخميني د. سعيد الشهابي ظهر خلال القرن الماضي في اوساط أمة العرب والمسلمين مصلحون، يهدفون لاعادة الحياة الي جسدها الخائر خصوصا بعد سقوط الخلافة الاسلامية في 1923 علي يدي كمال اتاتورك. فارتفاع اصوات الاصلاح في الامم التي تعاني من تداع داخلي أمر طبيعي في الشعوب التي تعاني من الهزيمة او التقهقر، ايا كانت اسباب ذلك. لقد كان هناك منظرون للاصلاح في فرنسا في القرن الثامن عشر، مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم، وضعوا بني فكرية دعمت مشروع الاصلاح وأحدثت وعيا جماهيريا ضروريا لاشعال الثورة لاحقا. وسبق الثورة البلشفية في روسيا انتشار افكار كارل ماركس وأنجلز، وظهر قصاصون ومفكرون آخرون مثل ماكسيم غوركي وتولستوي وغرامتشي الايطالي، وجاك لندن لبث ثقافة الفكر الشيوعي كمقدمة للثورة اللاحقة. ان للمثقفين والعلماء دورا كبيرا في توجيه الحركة الشعبية والفكرية باتجاه المطالب السياسية والاصلاحية. وعلي المستوي العربي كان هناك منظرون للاطروحات الفكرية والايديولوجية خلال القرن الماضي، للمنظور القومي مثل ميشيل عفلق وغيره، والفكر الشيوعي مثل جورج حنا. المشروع الاصلاحي الاسلامي هو الآخر تطور خلال القرن الماضي حتي بلغ مداه الحالي. بدأت اطروحات الاصلاح السياسي في العالم الاسلامي علي ايدي الشخصيات المعروفة مثل جمال الدين الافغاني ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا وغيرهم من رواد ذلك المشروع. والسؤال هنا: هل كان لدي هؤلاء جميعا مشاريع واضحة؟ ام انهم طرحوا افكارا تنويرية بدافع توعية المسلمين علي واقع مرير في مرحلة استعمارية حالكة؟ هل كانت مواقفهم نابعة حقا عن قناعة راسخة بالمشروع الاسلامي؟ ام انهم كانوا يسعون ل أسلمة ما توصلوا اليه من افكار بعد قراءتهم واقع الامة واطلاعهم علي التطور الغربي في مجال التكنولوجيا والممارسة السياسية؟ لقد حمل اولئك ارتباطا قويا بالاسلام، وشعروا بالاذي وهم يرون تداعي الامة وهيمنة الاستعمار علي مقدراتها، فراحوا يعيدون فتح الملفات للتعرف علي اسباب النهضة، فقدموا تراثا فكريا يعتبر رائدا في مجال الاصلاح السياسي الاسلامي المعاصر. دخل جمال الدين الأفغاني مصر مرتين؛ أولاهما: كانت سنة 1869م (1286ه) ولم يمكث فيها في تلك المرة سوي أربعين يوما، توجه بعدها إلي الأستانة، والثانية: كانت عام 1871م (1288ه) واستمرت إقامته في مصر هذه المرة ثماني سنوات ولم يخرج منها إلا مُكرها سنة 1879م حيث نفي بتحريض من الإنكليز إلي الهند، وهناك اعتقل في حيدر آباد ونقل الي كلكتا، ثم سمح له بمغادرة الهند بعد قمع الثورة العرابية واحتلال الإنكليز عسكريا لمصر. وها هو خطب في الإسكندرية فيقول: أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالميك؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟! . ويقول: لن تنبعث شرارة الإصلاح في وسط هذا الظلام الحالك إلا إذا تعلَّم الشعب، وعرف حقوقه ودافع عنها، ومتي عرف الشعب هذه الحقوق وجد نفسه مضطرا إلي المطالبة بها والمحافظة عليها إذا نالها . وقد أخذ محمد عبده عن جمال الدين الأفغاني منهج الإصلاح الديني باعتباره السبيل إلي تجديد حياة الشرق والشرقيين. اما الامام الشهيد حسن البنا فقد اضاف بعدا مهما لحركة الاصلاح في الامة بتأسيس جماعة الاخوان المسلمين التي عمت أغلب أقطار العالم الاسلامي، ووجهها علي مدي عقدين من الزمن علي طريق احياء الاسلام (1928 1949). يتفوق البنا علي الأفغاني بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين التي كان لها أثر بالغ في الحياة السياسية المصرية، بل العربية والعالمية كذلك. وهو يحدد هدفه مبكرا سنة 1929 بقوله: لا بد إذن من السعي لإصلاح الشرق وتوجيه جهود الأمم إلي غاية منتزعة من روح الشرق، وملائمة لمزاج أهله لا تنحصر في تقليد لأوروبا ولا لغيرها، بل قوامها إنهاض الشرق من كبوته واستخدام قواه الكامنة . وحسن البنا لا يري إلا صورة الإسلام الشامل الذي يحكم الحياة كلها، فهو يرد علي الدكتور طه حسين حين ينشر كتابه مستقبل الثقافة في مصر ، فيقول: الذي نخالف فيه الدكتور طه حسين، وغير الدكتور طه حسين ممن يؤمن بفكرته هذه: ادعاء أن هذا التفريق بين الدين والسياسة، وبين الدين والقومية، وبين الدين والعلم نافع لنا متفق مع تعاليم ديننا. هذه دعوي ينقصها الدليل النظري والدليل التاريخي، وتتنافي مع مصلحتنا ومقومات نهضتنا. والذي يريد أن يجرِّد الإسلام عن معناه القومي وعن معناه الثقافي يريد بمعني آخر ألا يكون هناك شيء اسمه الإسلام تؤمن به هذه الأمة وتدين به . ومن مفكري المشروع الاسلامي المعاصر سيد قطب، الذي أعدمه جمال عبد الناصر في 1966. والإسلام عند سيد قطب لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات، مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي. المجتمع الإسلامي: هو الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة، شريعة ونظاما، وخلقا وسلوكا.. والمجتمع الجاهلي: هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه. ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم أناسا ممن يسمون أنفسهم مسلمين ، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وإن صلي وصام وحج البيت الحرام... وقد يكون المجتمع إذا لم يطبق الشريعة مجتمعا جاهليا ولو أقر بوجود الله سبحانه ، ولو ترك الناس يقيمون الشعائر لله في الِبَيعِ والكنائس والمساجد. البعض يأخذ علي سيد قطب انه أسس لنزعة التكفير التي انتشرت في العقود الاخيرة وبلغت الآن ذروتها. ولكن من يقرأ سيرة سيد قطب وفكره يستنتج انه لم يدع الي العنف او الي تكفير المسلمين او قتلهم. هؤلاء المفكرون والعلماء ساهموا في التأصيل للمشروع الاسلامي، فبعضهم اقتصر علي الطرح الفكري، فيما ارتبط البعض الآخر بتجمعات او تنظيمات سعت لتنفيذ بعض مقاطع تلك الافكار. ومع ان تلك الجهود جميعا ساهمت في التأسيس للمشروع السياسي الاسلامي القائم حاليا، فان ما قام به الامام الخميني هو الذي جسد المشروع عمليا، اذ استطاع اقامة اول نظام سياسي اسلامي في التاريخ المعاصر. ولم يكن ما حققه تجربة خاطفة، بل هي مشروع قائم ما يزال يفرض نفسه اقليميا ودوليا، ويساهم في عولمة المشروع السياسي الاسلامي. وبغض النظر عن انجازات الكيان السياسي الذي أسسه الامام الخميني او اخفاقاته، وبرغم مؤاخذات البعض علي تفصيلاته، فانه في نظر الغرب، مشروع اثبت قدرته علي البقاء وتقديم بديل سياسي وفكري للشعوب الاسلامية الاخري. واذا كانت الخطط السياسية والاعلامية قد استهدفت ذلك المشروع منذ بداياته ووجهت له الكثير من التهم من بينها تصدير الثورة الا انه استطاع التمدد خارج الحدود الجغرافية لايران، واصبح هوية للنشطاء السياسيين في اغلب بلدان العالم الاسلامي. فلم يعد الاسلام السياسي محصورا بايران، بل اصبح سمة لأكبر المعارضات العربية وفي بلدان العالم الاسلامي. فمثلا من كان يعتقد ان تركيا أتاتورك الموغلة في العلمنة والتصدي للدين ومظاهره، ستصبح في غضون ثمانية عقود محكومة بحزب ذي اتجاهات اسلامية، وسيرفع الحظر عن الحجاب في الجامعات وسيعود الدين لموقع متقدم في الحياة العامة. ومن كان يتوقع ان يكون الاسلام أهم موضوع فكري وسياسي علي صعيد العلاقات بين العالمين الغربي والاسلامي؟ ومن كان يتوقع ان ينتشر الاقبال علي هذا الدين وعلي المساجد بالنمط القائم الذي سيؤدي الي تفوق عدد مرتادي المساجد علي عدد زوار الكنائس في البلدان الغربية؟ ثمة قضية محورية تجمع بين المفكرين الاسلاميين المذكورين، وتوضح الخيط الذي يربط بين اطروحاتهم الفكرية والسياسية، وهي الموقف تجاه الغرب. فاذا كان الافغاني وعبده ورشيد رضا قد سعوا للمواءمة بين الاسلام والغرب، مؤكدين علي الديمقراطية والحريات العامة والتكنولوجيا كشروط للنهضة، فان الرموز اللاحقة مثل البنا وقطب والخميني، حملوا تصورات اخري، دفعتهم للاعتقاد بضرورة حماية الامة من الهجمة الغربية، السياسية والثقافية، وتأكيد الثوابت الاسلامية في الفكر السياسي، ووقف حالة التمييع التي تمارس من اجل تطويع الامة للمشروع الغربي. وقد اتضح ذلك بشكل أكبر بعد احتلال فلسطين وقيام الكيان الاسرائيلي. وثمة بعد آخر لهؤلاء المصلحين يرتبط بشكل او آخر بالموقف الداعي للتحرر من الغرب، يتلخص بالعمل المتواصل لمنع الفتنة الداخلية في ما بين المسلمين. فلا يمكن ان يكون هناك موقف اسلامي فاعل الا اذا قام علي اسس متينة وراسخة من التفاهم والحوار والقبول المتبادل في ما بين المسلمين. فكانت الدعوة الي وحدة المسلمين واضحة في خطابات المصلحين المتأخرين. يقول الامام البنا: إن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها.. لم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل علي النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسا ولا غموضا في حماية الأقليات. وكان الافغاني من دعاة الوحدة، بل جسدها شخصيا اذ انطلق في عمله بعيدا عن الانتماء المذهبي، فكان رائدا في افغانستان ثم في مصر وايران، وكان قادرا علي تقديم خطاب وحدوي في كل هذه البلدان. اما الامام الخميني فقد اعتبر الوحدة ضرورة استراتيجية ومبدأ مقدسا. انه يشير الي الاصابع التي تثير الفتنة بين المسلمين ويعتبرها مسؤولة عن جريمة كبري: إنهم يحاولون عبثا زرع الفرقة. فالمسلمون أخوة في ما بينهم ولا يتفرقون الا من خلال الإعلام السيئ لبعض العناصر الفاسدة. ووفقا لاطروحات هؤلاء فان السنة في طرف والشيعة في طرف آخر، قد وقعت بسبب الجهل والإعلام الذي يمارسه الأجانب، مثلما نلاحظ بين الشيعة أنفسهم وجود أشخاص مختلفين في ما بينهم، يحارب أحدهم الآخر، ووقوف طائفة ضد أخري بين بعض الاخوة من أهل السنة . ويتفق رواد الاصلاح الاسلامي علي اعتبار فلسطين قضية المسلمين المحورية. فقد اعتبرها الامام حسن البنا قضية جوهرية للمسلمين، فشاركت السرايا الاخوانية في حرب 48 بشجاعة وحماس، وكانت للشهيد البنا مقالات كثيرة حول قضية فلسطين ومراسلات مع مسؤولي الحكومة المصرية حول القضية. اما الامام الخميني فقد جعل فلسطين في جوهر تفكيره واستراتيجيته، وما ان انتصرت الثورة حتي اسقط الاعتراف بوجود اسرائيل . وما الحصار السياسي المتواصل حتي الآن ضد الجمهورية الاسلامية الا نتيجة اصرارها علي عدم الاعتراف ب اسرائيل ودعم المجموعات المسلحة التي تقاوم الاحتلال سواء في لبنان وفلسطين. هذه الخيوط التي تجمع رواد الاصلاح السياسي الاسلامي واضحة، ولكن ربما العنصر الاهم من بينها شعورهم بالخطر الداهم من الحضارة الغربية السائدة علي الوجود الاسلامي، والاستهداف المتواصل لمشروعه السياسي. عن صحيفة القدس العربي 4/6/2008