مجتمعان أميركيان منفصلان .. أحدهما داخل السجن والآخر خارجه! ماري جوتسشالك منذ أربعين عاما، خلصت " لجنة كيرنر " في دراستها المميزة لأسباب الاضطرابات العنصرية في الولاياتالمتحدة الأميركية في الستينيات من القرن الماضي إلى القول :" إن بلدنا يتجه نحو مجتمعين - أحدهما أسود، والآخر أبيض - منفصلينِ وغير متساويينِ". واليوم نحن ما زلنا نتجه إلى مجتمعينِ: أحدهما في السجن والآخر خارجه. لقد نشر مركز " بيو " للأبحاث دراسة في شهر فبراير الماضي تظهر أنه للمرة الأولى في تاريخ أميركا، يكون هناك أكثر من شخص من بين كل 100 شخص راشد في السجن. ووفقا لوزارة العدل الأميركية، فإن 7 ملايين شخص - أو شخص واحد بين كل 32 شخصا بالغا - إما مسجون أو مفرج عنه وموضوع تحت المراقبة أو معلقة عقوبته مع مراقبته أو تحت شكل آخر من أشكال المراقبة المحلية أو من جانب الولاية. وهذه الأرقام تهون من التأثير غير المتكافئ الذي للتجربة الاجتماعية الجريئة وغير المسبوقة في مجموعات بعينها في المجتمع الأميركي. واليوم هناك واحد من بين كل تسعة شبان سود وراء القضبان. ويؤلف الأميركيون من أصل أفريقي الآن أكثر من نصف كل السجناء، وكانوا أكثر من الثلث من ثلاثة عقود مضت. وقد عقد السيناتور جيمس ويب مجموعة من الجلسات الملحوظة في شهر أكتوبر الماضي عن السجن الجماعي في الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي بيانه الواضح الصريح، أشار ويب إلى أن " الولاياتالمتحدة قد دخلت في واحدة من أكبر التجارب السياسية العامة في تاريخنا، غير أن هذه التجربة ما زالت غائبة على نحو مدهش عن الجدل العام". لم يحدد المرشحون الرئاسيون الأميركيون البارزون السجن الجماعي كمسألة محورية، حتى بالرغم من أنه يُدفع بأنها قضية حقوق الإنسان الكبرى في أميركا. وكثير من سياسات ضبط الجريمة اليوم تعوق بشكل أساسي التقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للسود الأكثر حرمانا وأعضاء مجموعات الأقليات الأخرى. إن السجن يتركهم أقل احتمالا لأن يجدوا عملا مربحا ويصوتوا في الانتخابات ويشاركوا في الأنشطة المدنية الأخرى ويحافظوا على العلاقات والروابط مع عائلاتهم وطوائفهم ومجتمعاتهم. لقد اعترف الكونجرس الأميركي ببعض من هذه العوائق مؤخرا، عندما وافق - بعد سنوات من التأخير- على " قانون الفرصة الثانية" وأرسله إلى البيت الأبيض، وهو القانون الذي وقعه الرئيس جورج بوش ودخل حيز التنفيذ في الأسبوع الماضي. وهذا التشريع يسعى إلى تسهيل إعادة دخول واندماج السجناء في المجتمع بتوفير زيادات معتدلة من الدعم لبرامج المراقبة والعلاج من المخدرات والتدريب الوظيفي والتعليم. ويخلص بروس ويسترن من جامعة هارفارد الأميركية بهدوء في كتابه المميز المعنون " العقاب وعدم المساواة في أميركا " إلى أن السجن الجماعي قد محا كثيرا من " المكاسب الخاصة بالمواطنة لدى الأميركيين من أصل أفريقي والتي فازت بها ونالتها بصعوبة حركة الحقوق المدنية". لقد تعرض السيناتور باراك أوباما بطريقة غير مباشرة لبعض النقاط المشابهة في خطاب له بجامعة هوارد في شهر سبتمبر الماضي. ولكنه لم يركز عموما على أخطار السجن الجماعي. كما لم تفعل السيناتور هيلاري كلينتون، برغم أن حزمة مكافحة الجريمة التي قدرها 4 مليارات دولار التي كشفت عنها النقاب في الأسبوع الماضي دعت إلى محو الحكم الفيدرالي الإلزامي بالسجن لخمس سنوات في المخالفات الصغيرة المتعلقة بالكوكايين. وبالنسبة للسيناتور جون ماكين، فإن الحقوق المدنية وسياسة العدالة الجنائية ليست من بين الخمس عشرة مسألة التي يبرزها المرشح الجمهوري على موقعه على شبكة الإنترنت. ولكن برنامج أميركا للفضاء يحتل قمة قائمة المسائل الخمس عشرة. وفي الجلسات في الكونجرس في الخريف الماضي، أبرز ويب حقيقة أساسية مُهمشة في معظم مناقشات الجريمة والعقاب : وهي أن الازدياد المفرط في قاطني السجون لم توجهه كثيرا زيادة في الجريمة بقدر ما توجهه الطريقة التي اخترنا بها الاستجابة للجريمة. وحتى الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، والذي كانت إدارته متواطئة في بناء أكبر سجن في التاريخ الأميركي، اعترف في خطاب مهم بمنتدى جامعة بنسلفانيا الأميركية في شهر فبراير الماضي في إحياء ذكرى " كيرنر" بأن " معظم الناس الذين ذهبوا إلى السجن كان يجب أن يتم إخراجهم من وقت طويل مضى". إن تغييرا في الجوهر لدى بيل كلينتون والشخصيات العامة الأميركية الأخرى لن يكون كافيا لتلافي ازدحام السجون. وفي حالات نادرة، تحرك المسئولون العامون بفعل المعتقدات الشخصية القوية لتفريغ سجونهم. وخلال ولايته القصيرة كوزير داخلية بريطانيا في مطلع القرن العشرين، عبر وينستون تشرشل عن ارتياب عميق بشأن ما يمكن تحقيقه من خلال السجن، وبدأ الإفراج عن المساجين. إن القيادة السياسية كانت حاسمة في تخفيضات كبرى في السجن في البلدان الأخرى. ولكن في حالات كثيرة، كان على الجماهير والخبراء في مجال العدالة الجنائية الضغط على الساسة لبدء تفريغ سجونهم ومعتقلاتهم. إنه عار وخزي وطني أن نسبة الإيداع بالسجن في الولاياتالمتحدة هي من 5 إلى 12 أمثال نسبة الإيداع بالسجن في الدول الصناعية الأخرى وكذلك هي الأعلى في العالم. وكما قال تشرشل ذات مرة " إن حالة واتجاه العامة فيما يتعلق بالتعامل مع الجريمة والمجرمين تُعد اختبارا من بين أكثر الاختبارات التي لا تخطئ ولا تخفق في حضارة أي بلد". نشر في صحيفة " واشنطن بوست " ونقل من صحيفة " الوطن العمانية " 19/4/2008