يكفي أن يعتذر الرئيس القادم .. إذا استطاع! د.علي حمد إبراهيم مجلة «السياسة الخارجية» الاميركية في عددها الصادر في اول يناير للعام الحالي وجهت سؤالا واحدا إلى عدد من الشخصيات العالمية والاميركية المرموقة هو « ماذا يتوجب على الرئيس الاميركي القادم أن يفعل حتى يستعيد صورة الولاياتالمتحدة المرموقة القديمة؟». و تلقت المجلة ردودا رصينة من جميع الذين وجهت إليهم ذلك السؤال.وقامت بنشر الردود التي وردت اليها تحت عناوين بارزة. وتركت التعليق لقرائها، وللمواطن الاميركي. ولقد رأيت انه من المفيد أن اتيح للقراء الكرام الفرصة للوقوف على بعض تلك الردود الرصينة. و لامندوحة من أن ابدأ بالرد الرصين الذي تلقته المجلة من المستر دزموند توتو رئيس اساقفة الكنيسة الانجليكانية في جنوب افريقيا، والحائز جائزة نوبل للسلام في عام 1984 لقاء كفاحه المستميت من اجل تحرير بلده وشعبه من قبضة النظام العنصري البغيض. ان الوزن الكبير الذي يعطيه العالم للقس دزموند توتو يعطي كلماته الموجهة للرئيس بوش اولا، وللولايات المتحدة ثانيا، قيمة اضافية تفرض على الاميركيين الاستماع إلى تلك الكلمات بقلب مفتوح على أمل أن تفتح نقاشا وحوارا في المنتديات السياسية والثقافية الاميركية المنفعلة الآن وبقوة شديدة بمجريات المعركة الانتخابية في الولاياتالمتحدة. يبدأ المستر توتو بمقدمة مكونة من جملة واحدة لا تزيد كلماتها على ست كلمات هي: «قليل من التواضع يخطو بنا إلى الأمام خطوات كثيرة» في اشارة لماحة للغرور الذي شاب مسلك ادارة الرئيس في مسيرتها التي شارفت على نهايتها الآن وهي تتخبط وتتلوى كالملدوغ من المس. يقول المستر توتو في مستهل رسالته للاميركيين إن مشاعر فياضة من التعاطف قد انهمرت على الولاياتالمتحدة بعد حادث الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 وكان ذلك برهانا كافيا على أنه «لم يكن هناك ثمة عداء غريزي ومتجذر وتلقائي ضد الولاياتالمتحدة.» ورغم نفيه وجود عداء غريزي وتلقائي ضد الولايات قبل الحادث الفاجع، إلا أن القس توتو يثبت أنه كانت هناك احتجاجات عالمية في بعض الاحيان ضد سياسات اميركية معينة مثل سياسات الرئيس رونالد ريغان التي انغمس فيها مع نظام جنوب افريقيا العنصري تحت مظلة «التعاون البناء». وقال القس انهم في جنوب افريقيا عارضوا تلك السياسات الاميركية بقوة، ولكن معارضتهم تلك لم تدفعهم إلى أن يكرهوا اميركا والاميركيين على اطلاقهم. ثم يدلف القس المرموق للحديث عن المشاعر السلبية المتعاظمة تجاه الولاياتالمتحدة اليوم. ويقول إن السياسات المغرورة، والاحادية، والفردية هي التي تسببت في بروز تلك المشاعر السالبة ضد الولاياتالمتحدة بالقدر الذي يشاهد اليوم.ويضيف «إن ادارة الرئيس بوش حشرت انفها في شؤون العالم الآخر، وأمرته أن يقفز في لجة البحر اذا لم يعجبه ما تفعل اميركا». ويدلل القس توتو على الغرور والاحادية والفردية الاميركية بالاشارة إلى بعض تصرفات الرئيس الاميركي حيال عدة قضايا دولية، ويشير تحديدا إلى مواقف الرئيس بوش من بروتوكول كيوتو، و محكمة الجنايات العالمية، و الموقوفين في معتقل غوانتانامو في كوبا، تلك القضايا التي رفض الرئيس بوش أن يستمع فيها إلى أية نصائح من مستشاريه و اجهزته المختصة. اما غزو الرئيس بوش للعراق، وتحقيره للامم المتحدة ،والقانون الدولي، فهي افعال كارثية بكل المقاييس في نظر القس توتو. وتساءل القس توتو لماذا لا يستطيع بعض الناس ان ينطقوا ببعض الكلمات او ببعض الجمل والتعابير، كأن يقولوا مثلا «لقد أخطأنا، او لقد ارتكبنا بعض الاخطاء ،أونحن آسفون». في اشارة واضحة إلى مطالبة القس للولايات المتحدة بالاعتذار عما يعتبره اخطاء اميركية كارثية في حق العراق، و الأممالمتحدة، و القانون الدولي.وقال القس توتو «ان هذه الكلمات الاعتذارية القليلة والبسيطة حين تقال بإخلاص، فإن احدا لا يفوته أن يرى ويدرك قوة المفعول البناء الذي تحدثه بصورة كفيلة بإحداث تغيير دينامي للأحوال. وتساءل القس توتو: هل يملك رئيس أميركا القادم الشهامة الاخلاقية التي تمكنه، او تمكنها، من ادراك حقيقة وحجم الاخطاء الاميركية التي ارتكبت في الفترة القريبة الماضية والاعتراف بها؟ وهل يملك الرئيس الاميركي القادم، او الرئيسة الاميركية القادمة، التصميم والاخلاص والاستعداد لتصحيح تلك الاخطاء، ووضع الأمور في نصابها الصحيح ؟ وسبح القس توتو بالاميركيين في ماضيهم المشرق القريب حين خاطبهم قائلا ان اكثر ما يذكر للولايات المتحدة هو كرمها الذي يعرفه الجميع، ويقدرونه بإعجاب كبير.فأوروبا، مثلا ،ان تنسى، فلن تنسى مشروع مارشال الاقتصادي الذي انقذ اوروبا بعد دمار الحرب العالمية الثانية.وقال ان تاريخ الاميركيين القريب كان مثلا، وحافزا للملايين من البشر لكي ينهضوا ويكافحوا وينجحوا في تحقيق حريتهم وديمقراطيتهم وحياتهم الافضل. ويختتم القس توتو مخاطبته الوجدانية الرصينة والعميقة للشعب الاميركي بالقول إن الدولة القطب لو ملكت فضيلة الشجاعة، وقوة التواضع، وسمو الفضيلة الاخلاقية فسوف تكون قادرة على النطق بتلك الكلمات الضرورية، وستكون قادرة على ان تقول انها آسفة على ما وقع على يديها من اخطاء. وحين يحدث هذا، فإن كل الناس في العالم سوف يمسحون اعينهم، ويدققون النظر من الدهشة وعدم التصديق، ثم لن يلبثوا حتى يضرب كل واحد منهم الآخر انتشاءا وفرحا، لأن فجرا جديدا قد اطلّ من وراء الحجب. وتلقت مجلة «السياسة الخارجية» اجابات رصينة اخرى عن نفس السؤال من بعض منظمات المجتمع المدني الاميركية التي هي من اكثر الموجوعين بأخطاء الادارة الاميركية الحالية في مجال السياسة الخارجية. وكان من ضمن الذين ردوا على سؤال المجلة من منظمات المجتمع المدني منظمة فَْمهىم َلٌٍُّمَُّ التي تعنى بقضايا السلام، ممثلة في شخص رئيستها الاستاذة جسيكا ماثيوز. نصحت السيدة ماثيوز الرئيس الاميركي القادم، او الرئيسة الاميركية القادمة، بفتح المجال امام سوريا للالتحاق بركب الراغبين في السلام والاستقرار في المنطقة. وقالت إن سوريا مستعدة لصفقة سلام في الشرق الاوسط لو اعطتها الولاياتالمتحدة الفرصة لكي تفعل ذلك . ومضت تقول «صحيح ان دور سوريا في تحقيق سلام الشرق الاوسط ليس دورا مفتاحيا، ولكن الصحيح ايضا ان سوريا تستطيع فرملة اي تقدم نحو السلام في المنطقة». وشرحت السيدة جسيكا وجهة نظرها هذه بقولها إن الجغرافيا منحت سوريا دورا مهما في أي عملية سلام في المنطقة. فسوريا تجاورالعراق ولبنان واسرائيل والاقليم الكردي في تركيا. وهذه كلها دول مهمة في عملية سلام الشرق الاوسط. ويضاف إلى كل ذلك العلاقات القديمة المميزة بين سوريا وايران وحزب الله. وتوازن السيدة جسيكا بين السلبي والايجابي في المواقف السورية في المنطقة. وتخرج بنتيجة تغلب فيها جانب الايجابي على جانب السلبي في مجمل المواقف السورية في المنطقة. وتسوق السيدة جسيكا بعض الامثلة للتدليل على ذلك، وتقول ان هناك شكوكا في دور سوري في دعم بعض الاغتيالات التي وقعت في لبنان في الفترة الماضية، والتي كادت تودي بالنظام اللبناني بكامله. وهناك ايضا الاشاعات عن برنامج سوري نووي سري، قوت منه عملية الهجوم الاسرائيلي غير المعلن على بعض المواقع السورية في العام الماضي.ولكن نفس النظام المتهم بهذه السلبيات في المنطقة هو نفس النظام الذي افتتح سفارة في العراق، وهو نفس النظام الذي آوى اكثر من مليون عراقي في اراضيه إبان فترة الحرب العراقية. وهو نفس النظام الذي حضر حفل افتتاح مؤتمر انابوليس للسلام في الولاياتالمتحدة. وهو نفس النظام الذي يعتقد على نطاق واسع الآن أنه وضع قيودا على تسرب الارهابيين عبر اراضيه إلى العراق. ولكن الولاياتالمتحدة اغلقت الباب في وجهه رغم كل هذه الايجابيات، عملا بما تؤمن ادارة الرئيس بوش من نهج دبلوماسي قائم على عدم التحدث مع الدول التي لا يحبها الرئيس بوش، رغم أن هذا النهج لم يخطُ بأميركا خطوة واحدة في اي اتجاه، ولكنه خطا بها بعيدا في مجال تعميق الشك في كل ما تقوم به الولاياتالمتحدة في المنطق. وتورد السيدة جسيكا عدة ملابسات اعربت فيها سوريا عن رغبتها في تحسين علاقاتها مع الولاياتالمتحدة، ولم تجد اذنا صاغية. من هذه الملابسات ما تناقلته الاخبار في العام الماضي من تصريحات نسبت إلى مستشار الرئيس بشار الاسد لمح فيها عن رغبة بلاده في التفاوض مع الولاياتالمتحدة. و قال فيها تحديدا « ان التفاوض معناه ان كل طرف يأتي إلى الطاولة بحالته الراهنة، وبما عنده، وبما معه من علاقات مع الآخرين».وتعتقد السيدة جسيكا ان هذا القول معناه ان سوريا تريد ان تبادل ما عندها، وتستفيد من ذلك التبادل. بمعنى آخر تريد سوريا تسويق علاقاتها مع ايران وحماس وحزب الله. وتسخر السيدة جسيكا من رفض الولاياتالمتحدة لهذه التلميحات السورية وتقول ان ذلك حدث لأن الولاياتالمتحدة تعتقد ان التحاور مع سوريا هو نعمة وامتياز ومكافأة اميركية لا تستحقها سوريا! والآن هل يعمل الرئيس الاميركي القادم، او الرئيسة الاميركية القادمة، بنصيحة رئيس اساقفة الكنيسة الانجليكانية في جنوب افريقيا، الاسقف دزموند توتو،و يعتذر للعالم الذي استهتر به سلفه، ولشعبه الذي خدع بتقارير استخبارية مفبركة عن خطر عراقي وشيك، وللشعب العراقي الذي قتل منه بتقدير الاممالمتحدة اكثر من مائة وخمسين الفا، وللامم المتحدة التي اساءها وسخر منها الرئيس بوش ووزير دفاعه رامسفيلد بصورة غير مسبوقة، ولسدنة القانون الدولي الذي اعتدى عليه الرئيس بوش بعناد كبير ؟ وهل يفتح الرئيس الاميركي القادم، او الرئيسة الاميركية القادمة، الباب امام سوريا للدخول إلى حظيرة الراغبين في لعب دور في سلام الشرق الاوسط حسبما تطالب منظمة كارنيجي انداومنت؟ مع الاسف، هذا الاعتذار غير وارد على لسان أي رئيس جمهوري قادم من واقع مناظرات المرشحين الجمهوريين للرئاسة. فالمرشحون الجمهوريون شرطوا اذاننا بحديثهم عن واجبهم المقدس في حماية شعبهم من الارهاب. ويفخرون بأن العالم صار افضل اليوم بدون صدام حسين. ويفخرون اكثر بأن ال َِّّْهم العسكري، في اشارة إلى زيادة عدد القوات الاميركية في العراق، قد أدى إلى السيطرة الاميركية على الاوضاع في العراق.وهم غير نادمين على أي شيء، وفخورون بأي شيء. اما الديمقراطيون، فهم يخشون من اتهام الجمهوريين لهم بالضعف واللين العسكري الذي لا يليق برئيس الدولة العظمى، مما يجعلهم يزايدون على الجمهوريين، ويظهرون تشددا اكثر. فالمرشحة الاكثر حظا بالفوز بالرئاسة، السيدة هيلاري كلينتون رفضت حتى الآن الاعتذار عن تصويتها لصالح الحرب في عام 2003، ولن تعتذر عن غزو العراق حتى لا تتهم بضعف الارادة. ويبقى المرشح قليل الخبرة وغير المجرب باراك اوباما . وهذا مرشح مبتدئ . وسوف يواجه بحملة انتخابية لا قبل له بها، واشك كثيرا في أن يستطيع أن يقدم على خطوات لا يقدم عليها عتاولة السياسة الاميركية القدماء. وتبقى نصيحة السيدة جسيكا مديرة مركز(كارنيجي انداومنت) للسلام العالمي بفتح المجال أمام سوريا للانضمام للاعبين في سلام الشرق الاوسط. إن أمل سوريا سيظل معقودا على فوز المرشح باراك اوباما، الذي قالها صريحة في كل المناظرات الرئاسية إنه سوف يفتح حوارا مباشرا مع سوريا وايران لحظة دخوله البيت الابيض، «لأن الانسان يحاور خصومه ولا يحاور اصدقاءه» كما قال. ولكن يبقى، بعد كل الذي تقدم، الأمل في تبدل ايجابي يعم كل المنطقة من رئيس قادم ما زال حتى الآن في علم الغيب. وما اضيق العيش لولا فسحة الأمل. عن صحيفة الوطن القطرية 29/1/2008