الهجرة غير الشرعية.. هل يمكن إيقافها؟ د. رفعت السعيد واذ نعود لنكمل حديثنا عن الهجرة غير الشرعية, سنقف علي أبواب مصر لنناقش أوضاعها. وابتداء نقرر أن المصريين لم يعرفوا الهجرة للعمل في الخارج إلا مؤخرا. وعندما تعرض الفلاحون المصريون للظلم في عهد محمد علي هاجر البعض منهم الي فلسطين خاصة الي عكا, حيث لم تزل هناك عديد من الأسر تحمل اسم المصري لكن محمد علي استعاد الكثيرين منهم بعد استسلام والي عكا. لكن مطلع القرن الماضي شهد هجرة واسعة من الريف الي المدن, حيث فرص العمل أوسع والحياة أكثر يسرا. ثم ومع تردي الأوضاع الاقتصادية في بداية سبعينيات القرن الماضي, وارتفاع أسعار البترول كواحد من تداعيات حرب1973 وبروز مصطلح البترو دولار تدفقت العمالة المصرية علي دول الخليج والسعودية والعراق وليبيا بالأساس, وقد تدافعت أعداد كبيرة للعمل بالخارج, لكنها كانت في أغلبها هجرة مؤقتة, فبعد أن يدخر المهاجر مبلغا كافيا من المال يعود ليحقق ما كان يطمح إليه من استقرار, ولأن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا من سكان القري فقد أدت عودتهم الي متغيرات اجتماعية جذرية في القرية المصرية, منها تغير شكل ونمط المسكن اختفاء الاقتصاد المنزلي, فالقرية تستورد طعامها من المدينة بدلا من انتاجه محليا ظهور نشاطات جديدة في القرية( محلات تجارية محلات فيديو اصلاح أجهزة كهربائية) زيادة حدة المضاربة علي الأراضي الزراعية انكماش عدد المشتغلين بالزراعة مما أدي الي ارتفاع أجورهم ومن ثم ارتفاع تكلفة المنتج الزراعي( بحث للدكتور عبدالباسط عبدالمعطي مجلة دراسات سكانية 1984). وأسباب الهجرة, فقد رصدها بحث للدكتور عبدالرءوف الضبع بعنوان ظاهرة البطالة وأثرها علي الأسرة, وكانت اجابات الساعين للهجرة من المناطق الحضرية تقول:93% الحصول علي مزيد من الدخل 72% الحصول علي مسكن بعد العودة 48% عدم وجود عمل 70% فقدان الأمل في الزواج والاستقرار. لكن هذه الأحلام ما لبثت أن تلاشت, فحرب الخليج الثانية, ثم احتلال أمريكا للعراق أخلي العراق من عمالة مصرية قدرت بنحو نصف مليون عامل عادوا الي مصر حيث لا فرص عمل, وعادت معهم من الأردن أعداد كبيرة بسبب عودة400 ألف عامل أردني من العراق الي بلادهم( د. رمزي زكي الاقتصاد السياسي للبطالة ص17), ثم بدأت عملية تقليص فرص العمل في دول الخليج والسعودية, إما بسبب تشغيل المواطنين أو بحثا عن يد عاملة رخيصة من باكستانيين وهنود وفلبينيين وغيرهم, كما أن العمالة المصرية في ليبيا قد تعرضت إلي ما دفعها للعودة. ويكون ذلك كله في ظل تقليص فرص العمالة في مصر بسبب من الخصخصة أو المعاش المبكر أو غيرهما, وهناك ما يدفع البعض للقول باحتمال وجود قدر من الانفراج بسبب زيادة الاستثمارات الأجنبية بما أدي الي تدفق أموال أجنبية الي السوق المصرية, بهدف الاستثمار فأدي الأمر الي ثبات سعر العملة المصرية ازاء النقد الأجنبي, ولكن المستثمر سيحتاج بعد ثلاث أو أربع سنوات الي تحويل أرباحه الي بلده الأصلي, وهنا تحدث هجرة معاكسة للدولار واليورو بما يحتمل أن يؤدي الي انخفاض في سعر العملة المصرية, فتزداد صعوبات الحياة. وعلي أية حال, فإن أحدا لم يزعم أنه بالامكان حل مشكلة البطالة بسهولة, لكنني أعتقد أن البعض يقدم صورة وردية عن احتمالات مضاعفة فرص العمل والقضاء علي البطالة أو تقليصها, وهي صورة اعتذر إذ أقول إنها غير دقيقة. فالنظرة العلمية تقدم لنا صورة غير وردية علي الاطلاق, فإذا كانت قوة العمل تتزايد سنويا بنسبة تقترب من3% فإنه يتعين علينا أن نحقق معدلا للنمو الاقتصادي لا يقل عن6% سنويا حتي يمكننا امتصاص الزيادة التي ستطرأ علي قوة العمل, أما اذا أردنا أن نمتص رصيد المتعطلين المتراكمين منذ زمن فإن الأمر يتطلب أن نرتفع بمعدل النمو الاقتصادي الي مدي يصل الي9% وأن يستمر ذلك عبر عقد من الزمان, وإذ يقرر الاقتصاديون أن معامل رأس المال للناتج هو3:1 فإن تحقيق هذه الأهداف سيتطلب علي أقل تقدير ألا يقل معدل الاستثمار الصافي عن27% من الدخل القومي.. وهذا مستحيل بالنسبة لنا في ظل المنظومة الاقتصادية الحالية. وأعتقد أن الحل لن يكون إلا بنهضة اقتصادية شاملة تتخطي العقبات التي تعترض النمو الصحي والسريع للاقتصاد يمكن تلخيصها في: التخلص من ضعف تكوين العمالة وانخفاض مستوي انتاجيتها بإحداث متغير جذري في نظم التعليم والتدريب وتنمية المهارات. معالجة قصور الاستثمار المحلي وضعف القدرة الادخارية الوطنية بسبب انقلاب معايير الاستهلاك والاستيراد. بناء قاعدة علمية وتكنولوجية مصرية والقدرة علي بلورة تكنولوجيات أكثر تلاؤما مع مرحلة تطور الاقتصاد المصري ومع نمو قوة العمل. وضع استراتيجية وطنية للتصنيع أي تحديد خطوط عامة موجهة للنشاط الصناعي الجديد, وتطوير المنشآت الصناعية القائمة, وربط الجديد منها بالقديم, وربط المؤسسة الكبيرة بالمؤسسات الصغيرة بما يعزز النهوض بالانتاج والانتاجية في كل منهما( د. إبراهيم العيسوي هموم اقتصادية مصرية ص110) وبطبيعة الحال يحتاج الأمر الي مواجهة صارمة للفساد والاحتكار والي قدر كبير من الشفافية, والي حماية ما تبقي من مؤسسات مهمة من توجهات الخصخصة المتعجلة. وأكاد أعتقد أن مثل هذه الخطي لم يتم الأخذ بها بعد, قد نتكلم عنها لكن الكلام يبقي كلاما, وأكاد أعتقد أيضا أن التركيز ينصب علي ما يعتقد البعض أنه المعيار الوحيد للنجاح, وهو احصاء كم الاستثمارات القادمة من الخارج, ناسين أن المستثمر الأجنبي لا يأتي من أجل حل مشكلاتنا الاقتصادية والاجتماعية, وانما هو يسعي بالطبع نحو مجتمعات ناهضة اقتصاديا وأسواق منتعشة فهو يأتي ليربح, وليحول أرباحه للخارج. اننا لسنا ضد الاستثمارات الأجنبية, لكننا نعتقد أن وضع خطة متكاملة لنهوض اقتصادي, تعليمي, اجتماعي, مجتمعي, صحي سوف يستطيع أن يوفر فرص عمل بجهد محلي وسوف يستدرج في ذات الوقت مزيدا من الاستثمارات الأجنبية. وبدون ذلك سيظل الشاب المتعطل متطلعا الي هجرة غير شرعية مهما تكن مخاطرها, ووحشية القائمين علي تنظيمها. عن صحيفة الاهرام المصرية 24/11/2007