متوسطية ساركوزي تتراجع لمصلحة الشرق أوسطية د. محمد السعيد إدريس ما بين زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المغرب يوم23 أكتوبر الماضي وزيارته الجزائر وتونس في منتصف يوليو الماضي مسافة زمنية لا تزيد كثيرا علي ثلاثة أشهر, لكنها من ناحية كثافة الأحداث والتحولات تبدو هائلة وعلي الأخص بالنسبة لمشروع الرئيس ساركوزي الداعي إلي تأسيس ما سماه اتحاد متوسطي. فعندما طرح ساركوزي دعوته تلك في مستهل زيارته الجزائر كان باديا أنه لم يطرح مشروعه من فراغ فكل ذلك الحماس الذي أبداه للمشروع كان يتضمن حتما وجود ضمانات لنجاحه شجعت شاركوزي علي أن يحمله معه إلي الجزائر ليبشر به, لكن كانت هناك ثلاث ملاحظات مهمة علي هذا المشروع وعلي الظروف التي عرض فيها: أولاها: أن الإعلان جاء في مؤتمر صحفي عقده ساركوزي بحضور الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة, لكن ساركوزي تفرد بالحديث في هذا المؤتمر دون أي مشاركة من الرئيس الجزائري, إضافة إلي ما أعلن من أن الرئاسة الفرنسية كانت قد أعطت تعليمات للصحفيين المرافقين بالامتناع عن توجيه أي أسئلة للرئيس بوتفليقة, الأمر الذي يثير بعض الاستفسارات حول تعمد بوتفليقة عدم الحديث في هذا المؤتمر الصحفي, وهل هذا الامتناع عن الحديث له علاقة ما بمشروع ساركوزي للاتحاد المتوسطي, وأن الجزائر غير متحمسة للفكرة علي ضوء التوترات الراهنة في العلاقات مع المغرب بسبب ما هو مثار حاليا من تطورات تخص القضية الصحراوية. ثانيتها: أن دعوة ساركوزي لهذا الاتحاد تركز علي قضيتين رئيسيتين جامعتين لدول شمال وجنوب البحر المتوسط هما: البيئة والأمن, وبالتحديد محاربة الإرهاب دون تركيز علي القضايا الاقتصادية, وهي ركيزة أي مشروع اتحادي ناجح حسب ما تؤكد تجربة الاتحاد الأوروبي; وعندما يجيء مشروع ساركوزي للاتحاد المتوسطي خاليا من التركيز علي المسائل الاقتصادية وأولوياتها فإنه يدفع إلي التشكيك في جدية النيات الفرنسية وبالتحديد في مسألة الاتحاد هذه ويحولها إلي مجرد فكرة للتعاون الأمني, وإلزام دول جنوب المتوسط بالتزامات أمنية لحماية أمن دول شمال المتوسط. ثالثتها: أن الدعوة لا تقتصر علي دول شمال المتوسط ودول المغرب العربي علي غرار مجموعة(5+5) التي لم تجتمع منذ أواخر عام2003, وتضم بلدان الحوض الغربي للمتوسط, ولكنها تتطلع إلي ضم دول شرق المتوسط وجنوبه الشرقي أيضا, أي مصر ولبنان وسوريا والأردن وإسرائيل, والأهم هي تركيا التي تعمد الرئيس ساركوزي أن يذكرها بالاسم في وقت يحارب فيه الفرنسيون مع دول أوروبية أخري طموحات تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي. فمن الواضح أن فرنسا تري دورا مركزيا لتركيا في هذا الاتحاد المتوسطي يحافظ عليها كحليف قوي للغرب دون أن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي الذي تعمل الرئاسة الفرنسية الجديدة علي إحداث تغييرات بنيوية واسعة النطاق داخله تستهدف وقف التوسع في عضوية هذا الاتحاد حفاظا علي هويته باعتباره ناديا مسيحيا, واتخاذ الإجراءات اللازمة لبناء أوروبا قوية يقودها رئيس واحد ولها وزير خارجية واحدة بدلا من أوروبا بيروقراطية مترهلة, وإعداد فرنسا لقيادة أوروبا علي الصعيدين السياسي والعسكري, وتفعيل القاطرة الفرنسية الألمانية. ساركوزي كان قد أعلن قبيل زيارته تلك الجزائر وتونس, التي خلت من زيارة المغرب بعد أن طلبت السلطات المغربية تأجيلها, أنه قد آن الأوان لإنشاء اتحاد في المتوسط لمجابهة المنافسة الأمريكية والآسيوية المتناميتين في المنطقة. وأوضح أن مشروعه المتوسطي يهدف إلي جمع الشعوب المتوسطية لبناء السلام والتطور عبر اتحاد يبني بالطريقة التي بني بها الأوروبيون الاتحاد الأوروبي, وأن المشروع يهدف إلي جعل المتوسط, البحر الأكثر نظافة في العالم, وإعادة السلام والأمن إلي ضفافه, وأن يسود حوار الثقافات والسلام والازدهار الاقتصادي بدلا من المواجهة بين الشرق والغرب. كل هذا يكشف عن أمرين: أولهما: أن الرئيس الفرنسي وقت أن زار الجزائر وتونس في يوليو الماضي كان متحمسا لدعوة الاتحاد المتوسطي تلك, حيث كان حديث العهد في موقعه كرئيس لفرنسا. وثانيهما: أن هناك رؤية واضحة وأهدافا محددة هي التي جعلت الرئيس ساركوزي متحمسا لتأسيس هذا الاتحاد, وهي رؤية وأهداف تكشف عن قناعة فرنسية بضرورة منافسة النفوذ الأمريكي المتنامي في المنطقة; أي جعل المتوسطية الفرنسية, في مواجهة الشرق أوسطية الأمريكية. الأمر اختلف كثيرا بعد مضي ثلاثة أشهر فقط علي الإعلان الفرنسي بضرورة تأسيس هذا الاتحاد المتوسطي علي نحو ما ظهر في زيارة الرئيس ساركوزي المغرب في23 أكتوبر الماضي, فقد غابت أولوية الدعوة لهذا الاتحاد علي لسان الرئيس الفرنسي الذي ركز بدلا منها علي التعاون الثنائي الفرنسي المغربي, كما تعمد العاهل المغربي التركيز علي أولوية العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوروبي, والعلاقة بين المغرب وفرنسا, فالرئيس الفرنسي اكتفي في مستهل زيارته المغرب بالدعوة إلي عقد قمة في فرنسا لرؤساء دول حوض البحر المتوسط في يونيو2008 لإرساء قواعد اتحاد اقتصادي وسياسي, ثم انتقلت الزيارة بعد ذلك لبحث العلاقات الثنائية الفرنسية المغربية وبالذات مشروعا الطاقة النووية وخط القطار فائق السرعة, وتعمد ساركوزي أن يؤكد بهذا الخصوص أن صداقة فرنسا لا تترجم بالخطابات والكلمات, إنما بالأفعال والنشاطات, وقال: إنه يتوقع أن يحظي المغرب بتصريح نووي مدني بالمشاركة مع فرنسا حيث إن طاقة المستقبل ينبغي ألا تبقي حكرا علي الدول الصناعية, في الوقت الذي يتم فيه احترام المعاهدات الدولية. أما العاهل المغربي الملك محمد السادس فقد ركز علي علاقة بل اده مع الاتحاد الأوروبي حيث أوضح أن سياسة التقارب مع الاتحاد الأوروبي عززت تطلع المغرب إلي وضع متقدم يعطي علاقاته مع الاتحاد الأوروبي البعد الاستراتيجي الذي تستحقه, كما أوضح أن تطوير هذه العلاقة سيمكن المغرب من القيام بدوره الرائد في التقريب بين ضفتي المتوسط; أي أن تعاون المغرب مع الاتحاد الأوروبي هو الذي سيساعد علي تطوير علاقات متوسطية وليس العكس, ووصف مشروع ساركوزي للاتحاد المتوسطي بأنه مشروع رئوي وجريء; أي أنه ليس إلا مجرد رؤية مستقبلية جريئة مازالت خاضعة للبحث.هذا التراجع في الحماس لمشروع الاتحاد المتوسطي لا يمكن أن يكون مرجعه فقط التحفظات المغربية كما وردت علي لسان الملك محمد السادس, لكن ربما يكون السبب الأهم هو ذلك التحول المتسارع في مواقف الرئيس الفرنسي باتجاه المزيد من التحالف مع الإدارة الأمريكية ورئيسها جورج بوش الذي سوف يلتقيه يومي6 و7 نوفمبر الحالي في زيارة هي الأولي منذ أن تولي منصبه كرئيس لفرنسا. هذا التحالف مع الولاياتالمتحدة الجديد علي السياسة الفرنسية تأكد في قضايا شرق أوسطية ساخنة, وعلي الأخص في لبنان وإيران والعراق والقضية الفلسطينية, وتجاوز التهديد الفرنسي لإيران نظيره الأمريكي في كثير من المواقف لدرجة جعلت إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية يقول, عقب لقائه في باريس مع الرئيس الفرنسي بعد ساعات من عودته من المغرب, إن أفكار الرئيس ساركوزي بخصوص التعامل مع الملف النووي الإيراني تكاد تتطابق مع توقعاته, وقال للصحفيين المرافقين له: لا يمكن أن أسمع أقوالا تطابق توقعاتي أكثر من أقوال الرئيس ساركوزي. الأمر الذي يمكن أن نفهم منه أن قضايا الشرق الأوسط وصراعاته أصبحت جاذبة أكثر للرئيس الفرنسي علي حساب مشروعه المتوسطي, لأسباب كثيرة أهمها أن مردودها, وعلي الأخص ما يتعلق بالمزيد من التقارب الأمريكي الفرنسي, يتوافق مع طموحات الدور العالمي لفرنسا الذي يفرض عليها عدم الصدام مع الدور الأمريكي ومشروعه الشرق أوسطي. عن صحيفة الاهرام المصرية 3/11/2007