مهمة عسيرة إن لم تكن شبه مستحيلة تلك التي تنتظر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال جولته الأولي المرتقبة غدا لدول المغرب العربي( الجزائرتونس المغرب), التي قرر ساركوزي أن تكون أول وأسخن منطقة لفرنسا يزورها ضمن منظومة الشرق الأوسط لاستعادة بلدان ما كان يمسي بالأمس القريب الحديقة الخلفية لفرنسا طيلة عشرات السنين بعد خطر الزحف الأمريكي المتنامي بشدة خلال هذا العام نحو الاصطفاف مع دول المغرب العربي في خندق معركة مكافحة الإرهاب الذي وصل لبعض دول تلك المنطقة والتواصل معها عبر مشاريع مشتركة آخرها إنشاء قوات أفريكوم الأمريكية في المغرب العربي والساحل الإفريقي للتصدي بقوة ردع خارقة لخطر تنظيم القاعدة ببلاد المغرب العربي التي أعلنت عن نفسها هذا العام وقررت حرق الأخضر واليابس بالمنطقة, والنيل من المصالح الأمريكية والمغربية في أتون معركة أفتي أمير القاعدة بالمنطقة أبو مصعب عبدالودود في الأيام الماضية بالباطل والإرهاب بأنها ستكون فرض عين علي كل مغاربي. وبالتالي قرر ساركوزي الحضور مبكرا وبعد أسابيع معدودة من اختياره رئيسا لفرنسا في مايو الماضي للمغرب العربي وهو يحمل داخله الإصرار علي تنفيذ مهمة مزدوجة من شقين كلاهما شاق وصعب بعد تراجع شيء من النفوذ والحضور في المنطقة الأول هو ضرورة الإسراع بتكسير أقدام الولاياتالمتحدةالأمريكية الزاحفة حاليا بشراهة نحو المغرب العربي, والثاني هو ضرورة تقديم سلة حوافز لا نهاية لها علي الأقل في الأيام المقبلة لاحتضان واستعادة الدور الفرنسي والعلاقات المميزة مع دول المغرب العربي, فضلا عن معالجة وتجاوز أخطاء الماضي القريب وذوبان جبال الثلج التي تراكمت مع بعض دول المغرب العربي, خاصة في العامين الماضيين علي إثر تردي أزمة رفض الاعتذار للجزائر عن سنوات الاحتلال الفرنسي لأكثر من132 عاما, ومجمل الانتهاكات والأعمال الوحشية التي ارتكبت خلال تلك الفترة, ومن ثم رفض بوتفليقة بشدة التوقيع علي معاهدة الصداقة الاستراتيجية مع الرئيس السابق جاك شيراك. وهو الأمر الذي كان قد طال بعض الفتور والتراجع في علاقات بوتفليقة وساركوزي أيضا, وانعكس بالسلب علي لقاءاتهما الأخيرة في شهر يناير الماضي خلال زيارة ساركوزي للجزائر قبل ترشيحه لانتخابات الرئاسة التي حضر من أجلها لاستهداف أصوات أكثر من مليوني جزائري يقيمون في باريس للتصويت يومها لمصلحته, مطالبين يومها بوتفليقة وبلخادم رئيس الحكومة بضرورة اعتذار فرنسا وأن يبادر هو بتقديم الاعتذار إذا أراد أن يضمن علاقات متميزة مع الجزائر عندما يتولي رئاسة فرنسا وتعود المياه بكثافة أسفل نهر علاقات البلدين. وهو الأمر الذي تهرب منه يومها ساركوزي وخاطب الجزائريين بصلف وعنف الاستعمار الماضي كما قال بعض المسئولين الجزائريين وقتذاك, وأعلن قبل مغادرته الجزائر بساعات أن الأبناء لا يعتذروا عن جرائم الآباء, فأثار حفيظة القيادة الجزائرية, فخاطبه بعدها بوتفليقة بقوله الشهير: تبا لصداقة تتغذي علي لحم البشر, مكرسا أمارات الرفض والتخلي عن القبلة الفرنسية بإشارات واضحة نحو التعاون وبداية تجذر لعلاقات استراتيجية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية علي الفور, فغضبت باريس من يومها وتساءل وتعجب شيراك حتي وهو يغادر قصر الإليزيه: لا أعرف لماذا تفعل الجزائر هكذا؟ ولمصلحة من تتردي علاقاتنا في الوقت الذي مازال يغمرني والكلام لشيراك أمس الأول لإحدي الصحف المغاربية حول حصيلة حصاده السابق في الإليزيه بعد تركه الحكم كيف تقطع أمريكا ودبلوماسيتها وأجهزتها كل هذه الآلاف من الأميال يوميا إلي منطقة المغرب العربي لتناكف وتزاحم الحضور الفرنسي هناك؟ وهو الأمر الذي استوعبه في الحال ساركوزي فكان قراره في الأيام الماضية لوزارة الخارجية الفرنسية بضرورة تكثيف الاجتماعات وورش العمل مع سفراء دول المغرب العربي في باريس, وتوجيه الدعوة لعدد من كبار المسئولين لحضور اجتماعات مغاربية فرنسية تهدف إلي استشراف آفاق استراتيجية تنوي فرنسا في بداية عهد ساركوزي صياغتها, وتهدف أول ما تهدف إلي خطة فرنسية طموح لتصحيح استراتيجيات وتكتيكات مستقبل العلاقة المقبلة بين الجانبين علي أسس جديدة تستفيد من أفكار الماضي, وتصوغ مقومات جاذبة لبناء صرح لعلاقات استراتيجية جديدة تأخذ في الحسبان خصوصية وجوهر التعايش والاصطفاف الفرنسي المغاربي, وتعايش وجوار دول منطقتي البحر المتوسط. وهو ما يبدو أن ساركوزي مصمم علي تحقيقه علي وجه السرعة في خلال الأيام المقبلة وأراد من خلاله أن يوجه عدة رسائل مشجعة في الأيام الماضية لدول المغرب العربي, وبالأخص الجزائر وقادتها في محاولة لإثناء تحركها والنوم مع واشنطن في مخدع واحد من خلال رسائل متتالية للرئيس بوتفليقة, وكانت لافتة للجميع هنا يذكره فيها بأن مشاركة فرنساوالجزائر مسئوليتنا واستعداده ورغبته في إقامة علاقات استراتيجية جديدة ومشاركة متميزة بين البلدين تتجاوز أخطاء الماضي وتعالج بؤر التشقق الحالي في العلاقات لكن دون التطرق لاعتذارات أو عناء جلد الذات مع التمسك بترك التاريخ للباحثين والمستشرقين ليكتبوه بحياد وشفافية أي بمعني عفا الله عما سلف مع إمكان الأخذ في الاعتبار إمكان تعويضكم دون لائحة التزامات أو التلويح بسيف الابتزاز الذي يخشاه البعض في باريس. وبات لافتا أن ساركوزي الذي لم ينتظر رد الرئيس بوتفليقة علي مجمل رسائله الأخيرة في الحال سارع بترجمة العديد من تلك الإشارات التي حملتها عناوين رسائله للجانب الجزائري التي كان يهدف من ورائها طبقا للذكاء الساركوزي إلي ضرورة تهدئة الخواطر سريعا بين البلدين, ومن ثم كسب عقول وقلوب الجزائريين في وقت واحد أولا وصولا إلي رأس القمة في الجزائر وبوتيرة متسارعة عبر دغدغة مشاعرهم في السفر والحضور إلي فرنسا, وذلك لن يتأتي إلا بالتخلي عن اقتناعاته ورفضه المتشدد ولو لفترة مؤقتة عبر السماح بإعادة النظر في إجراءات وقيود سفر وهجرة الشباب وجميع الأعمار من الجزائريين إلي فرنسا وإلغاء القيود وشطب كامل الممانعات والعراقيل الحالية حتي لو كانت قيودا, وباستثناء اتفاق شنفل للاتحاد الأوروبي بحيث يستثني أبناء الجزائر دون غيرهم من دول المغرب العربي وشمال إفريقيا في التنقل بين باريس ودول الاتحاد الأوروبي دون مطاردات ومنغصات أمنية وسياسية. وهذا ما فاجأ به برنار باجولي سفير فرنسا في الجزائر جميع الجزائريين علي السواء قبل أيام معدودة من زيارة ساركوزي للجزائر ويزف لهم البشري بأن فرنسا ستتخلي عن قيود كثير من التعاملات مع الجزائر, وأن السفر والحصول علي تأشيرة لدخول باريس سيصبح جاهزا خلال أسبوع فقط بعد أن كانت قوائم الانتظار والترقب تطول لعدة سنوات, وفي نهاية الأمر يأتي الجواب الفرنسي دوما بالرفض النهائي. ولم يتوان السفير باجولي عن سرد المفاجآت الفرنسية للجزائريين بأن مستقبل العلاقات والواجهة الفرنسية للجزائر ستكون أفضل دوما مع باريس, في إشارة إلي الانزعاج من الحضور الأمريكي بكثافة هذه الأيام للجزائر, كاشفا لهم النقاب عن مشروع اتفاق مشاركة استراتيجية طموح تعدله باريس حاليا, وسيتولي الرئيس ساركوزي بنفسه الإعلان عنه هو والعديد المفاجآت التي سيقدمها خلال زيارته المرتقبة للجزائر انطلاقا من اهتماماته التي يعد لها باعتبار الجزائر والمغرب العربي من أول المسارات القادمة للسياسة الخارجية لفرنسا, وسيتجلي ذلك بالطبع عند الكشف عند مشروع اتحاد دول المتوسط الذي كان ساركوزي قد أعلن عنه في اللحظات الأولي لانتخابه خلال خطاب التهنئة بفوزه في رئاسيات فرنسا, وهو المشروع الذي سيحظي باهتمام غير مسبوق خلال مباحثاته مع قادة دول المغرب العربي, حيث يتولي ساركوزي شرح وتحديد أولويات ومهام هذا الاتحاد وتمسكه بضرورة الإسراع بإنشائه قبل نهاية هذا العام, حيث يرغب في الإعلان عنه هنا في الجزائر حسب تأكيد السفير برنارد باجولي. والذي يري أن هذا الاتحاد هو اقتراح ومشروع فرنسي بحت صاحب حقوق الملكية الفكرية له وحده هو ساركوزي الذي يشمل جميع الدول الأوروبية والعربية المطلة علي البحر المتوسط, أي فرنسا واسبانيا وإيطاليا واليونان وتركيا, مقابل دول المغرب العربي ومصر كمرحلة أولي تتبعها مرحلة لاحقة بضم دول أخري بعد عامين بحيث يوفر خصوصية الشأن المتوسطي أكثر من إعلان برشلونة, وهذا ما سيتولي ساركوزي توضيحه وكشف نقابه لدول المغرب في جولته المقبلة. إلا أنه بجانب كل ذلك تبقي هناك أبرز قضية يحضر ساركوزي من أجلها للجزائر ويسعي لتحقيق عدة أهداف واستحقاقات عاجلة وملزمة بشأنها مع الجانب الجزائري وهي ضرورة تنحية لائحة خلافات البلدين جانبا, والإسراع بوضع آليات واتفاقيات عاجلة متبادلة ومشتركة لمواجهة خطر قاعدة بلاد المغرب العربي التي بدأت تطل هذه الأيام بكثافة علي المشهد الأمني في فرنسا وبشكل كبير عبر موجات التهديد وشرائط الرعب التي يبثها أميرها أبو مصعب عبدالودود حاليا وبشكل شبه يومي بالصوت والصورة ضد فرنسا, وداخل باريس بعمليات التفجير الجوال والمتنقل للقاعدة, وهو الأمر الذي يثير الرعب والصدمة علي مدي الساعة في الأيام الماضية للفرنسيين. إلا أن الرئيس الجزائري الذي يأمل في صداقة وعلاقة حميمة مع ساركوزي تفوق سجالات الاعتذار والاعتراف بأخطاء الماضي سارع ليذكر ساركوزي قبل وصوله إلي الجزائر بأنه يجب الوضع في الاعتبار أن علاقات الجزائر مع مستعمرة الأمس لاتزال تكتنفها أفكار تلك السيطرة ومخلفاتها وبالتالي إذا رغبتم في فتح نافذة جديدة لإخراج تلك العلاقات من دائرة التردي والجمود لابد أن يكون ذلك وفق مبادئ لا تتنكر للماضي الفرنسي البغيض في الجزائر حتي تكون التعويضات والاعتذار بحجم الجرائم والمآسي الاستعمارية هنا, وكذلك خالية من شوائب التفكير أو الحنين إلي المستعمرة القديمة. وكل هذا لن يتأتي إلا بتوفير جو من الثقة بين بلدينا يقوم علي الحرية والاحترام وإحداث مقاربة جريئة لعلاقات ثنائية وتوازنات إقليمية لا تكون عرضة للانزلاق نحو الماضي الاستعماري بما لا يرجي منه خير ولا تحمد عقباه.