"أكتوبر" وضعت نهاية لحالة اللاحرب واللاسلم مرسي عطا الله لقد استطاع نسور مصر في ضربتهم الجوية الأولى أن يشلوا حركة إسرائيل تماما بعد نجاحهم في تدمير مواقع الدفاع الجوي في سيناء خصوصا مواقع صواريخ هوك الأميركية التي كانت إسرائيل قد تزودت بها حديثا، كما نجحت الضربة في تعطيل مدارج المطارات في سيناء، مما أدى الى انعدام قدرة استخدامها لفترة زمنية معقولة تمت خلالها مهمة العبور بعيدا عن قدرة العمل الجوي الإسرائيلي من هذه المطارات القريبة. ثم كان ما كان بعد ذلك من أداء رائع ومتصل لقواتنا الجوية في تأمين العبور على امتداد ساحة المواجهة بأكملها، وحماية العمق المصري من محاولات الاختراق الإسرائيلية فضلا عن المهام الانتحارية التي قامت بها أسراب الهليكوبتر خلف الخطوط الإسرائيلية طوال مراحل الحرب. ولعلنا نتذكر جيدا كيف سرى نبأ نجاح الضربة الجوية في صفوف المقاتلين المصريين ليرفع روحهم المعنوية الى السماء، بعد أن سقطت أسطورة الذراع الطويلة لإسرائيل باسم التفوق الجوي، والقدرة التكنولوجية والتدريب الدقيق... أما على الجانب الآخر في إسرائيل فقد أصيبت كل مستويات القيادة المركزية والميدانية بالشلل ليس من هول المفاجأة فحسب، وإنما من دقة نجاح الضربة الجوية، وما ترتب عليها من خسائر موجعة لم تتوقعها إسرائيل بأي مقياس. وبينما كانت مصر كلها تعيش أسعد لحظاتها، كان هناك رجل تعاظمت أحاسيسه في هذه اللحظة لتتجاوز حدود الفرحة والسعادة والانتصار، بعد النجاح المذهل الذي حققته الضربة الجوية الأولى في ظل أصعب ظروف يمكن أن يواجهها أي قائد عسكري محترف لم تغب عن ذهنه للحظة مخاوف ما جرى في يونيو 1967 من تداعيات، كانت كلها بالحساب الدقيق تحسب لصالح الأسطورة الإسرائيلية، وتتصادم مع الحلم المصري في التصحيح والتعويض. إن الإنصاف للحقيقة والاعتزاز بالنصر المجيد وأبطاله يقتضي أن نقول إن الرجل الذي يتحمل اليوم مسؤولية الوطن بأسره ويقود السفينة وسط أمواج دولية واقليمية مضطربة سياسيا واقتصاديا هو نفسه ذات الرجل الذي تحمل مسؤولية اعادة بناء القوات الجوية بعد نكسة يونيو 1967 وكان له شرف قيادتها يوم 6 أكتوبر عام 1973 واصدار الأمر الكلمة الرمزية صدام الى جميع مراكز عمليات التشكيلات والقواعد والمطارات الجوية فوق مصر، ظهر يوم السادس من أكتوبر ليبدأ قادة هذه المراكز والتشكيلات في فتح الأظرف المغلقة التي تحوي تعليمات تنفيذ المهمة الكبرى التي كان يحلم بها منذ أن كلفه الرئيس جمال عبدالناصر بمنصب مدير الكلية الجوية في نوفمبر عام 1967 لكي يبدأ أهم مشوار في تخريج جيل جديد من النسور الذين سيتحملون مسؤولية غسل عار الهزيمة ورد الاعتبار لمصر.. وعندما اطمأن الرئيس عبدالناصر الى أنه قد أدى هذه المهمة بكفاءة واقتدار في زمن قياسي لم يتجاوز 20 شهرا، كان القرار الثاني لعبدالناصر باختياره رئيسا لأركان حرب القوات الجوية في 23 يونيو 1969 لكي يتحمل القيادة لما هو قادم من مهام جسام، وعندما تولى الرئيس أنور السادات مسؤولية الحكم لم يجد سوى اللواء محمد حسني مبارك لكي يسند إليه منصب قائد القوات الجوية في 23 أبريل عام 1972. لقد كان إحساس الفريق حسني مبارك صباح يوم السادس من أكتوبر عام 1973 احساسا مختلفا تماما عن أحاسيس ومشاعر الآخرين فقد كان كل عطائه وجهده المتصل قد أصبح في الميزان.. ومن ثم فإنه كان ينتظر أن يرى نتاج عمله وابداعه وتخطيطه لخدمة هذا اليوم المجيد، من خلال خطة خداع بارعة للقوات الجوية في إطار خطة الخداع الاستراتيجية الشاملة للقوات المسلحة، ومن خلال تلقين دقيق ومحكم للأهداف، والمواقع التي سوف تتم مهاجمتها وتدميرها في الضربة الجوية الأولى التي يتوقف عليها مصير الحرب... وأيضا فلقد كانت مقاييسه وأحاسيسه بعد الساعة الثانية من ظهر السادس من أكتوبر عام 1973 جد مختلفة تماما عن حسابات الآخرين لأنه وحده الذي كان يعرف أكثر من غيره حجم العرق والدم الذي بذله الرجال الى حد الاستشهاد في ساحات التدريب، لكي يكونوا عند مستوى المسؤولية بإنجاز أكبر مهمة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وهي الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر 1973. والحقيقة أننا لا نملك اليوم بعد مرور 35 عاما على هذا اليوم المجيد سوي أن نوجه كل التحية وكل التقدير للأبطال الذين صنعوا مجد مصر في هذا اليوم... وكل الوفاء والعرفان بالجميل للشهداء الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أن ترتفع رايات مصر وهامات شعبها. لقد صنع هؤلاء الأبطال والشهداء سيمفونية رائعة بمشاركة أكثر من 100 ألف مقاتل كان لكل واحد منهم دوره، وكانت دليلا حيا على قدرة الانجاز، إذ تم التخطيط الجيد والإعداد الكافي والتجهيز النفسي والمعنوي واتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح تحت مظلة المفاجأة واستخدام أساليب الخداع التعبوي والتكتيكي والاستراتيجي. ويبقى أن أقول إن حرب أكتوبر كشفت لنا عن كثير من أسباب القوة التي نهملها أحيانا عن جهل أو عن جهالة... فقد جاءت إثباتا لمصداقية الوجود العربي كأمة واحدة تستطيع أن تصنع المعجزات إذا اتحدت ارادتها.. كما أنها جاءت تأكيدا لمصداقية الرصيد الضخم لإمكانات العمل العربي الموحد إذا أحسن استخدام وتوظيف هذه الامكانات بنفس درجة استخدام سلاح البترول عندما تقتضي الضرورة ذلك بشرط أن تكون الحسابات السياسية والاستراتيجية حسابات دقيقة. والأهم من ذلك كله أن حرب أكتوبر كانت سبيلا لإثبات قدرة الإنسان المصري والإنسان العربي على صنع المستحيل بدءا من شجاعة اتخاذ القرار ومرورا بعظمة التجهيز والحشد والإعداد ووصولا الى روعة الأداء والتضحية من أجل عبور الهزيمة ورفع رايات الانتصار! --- وأعود الى نقطة البداية في حديث هذا الأسبوع ونحن نسترجع بعض عناوين مختصرة من دفتر ذكريات هذه الحرب المجيدة لأؤكد مجددا أنه لايمكن أن نفهم حجم ما أنجزته مصر دون التوقف بالتأمل أمام صورة المشهد الأليم الذي عايشناه منذ وقوع نكسة الهزيمة العسكرية في 5 يونيو 1967 وحتى يوم السادس من أكتوبر عام 1973 عندما نجحنا في رد الاعتبار وإذاقة إسرائيل طعم الهزيمة الاستراتيجية والتكتيكية. علينا أن نتذكر كيف خرجت جماهير الشعب المصري في التاسع والعاشر من يونيو 1967 لتعلن رفضها للهزيمة ورفضها للاستسلام وتأكيد ثقتها بأن النصر في النهاية سوف يتحقق لمن تتوافر لديهم القدرة على الصبر والصمت، وإعادة بناء القوة التي ضاعت، أو تحطمت في لحظة غمضت فيها العيون عن رؤية الخطر.ومن المؤكد أن الذين سيؤرخون لهذه الفترة الحالكة من تاريخ الشعب المصري، سوف يبرزون بغير جدال كل ما أحاط بظروف تلك الساعات الرهيبة من يومي التاسع والعاشر من يونيو، باعتبارها منطلقا الى نقطة تحول خطيرة، أفرزت علامات الضوء وخيوط النور التي انطلقت من روح هذه الأمة وإرادتها التي صنعت ملحمة إعادة البناء العسكري على أنقاض النكسة في زمن قياسي. لقد كانت الصورة، عقب النكسة، لاتبعث على أي أمل.. حيث كانت الحقائق العلمية المادية الملموسة تقول إن خسائر القوات المسلحة في معداتها العسكرية تجاوزت 80% من حجم المعدات، وإن القوات المصرية المسلحة باتت من تأثير الصدمة وروع الهزيمة مبعثرة ومشتتة وشبه تائهة، وبالتالي فإن المحصلة العامة للقوات لاتعطي في النهاية قوة قادرة سواء على الدفاع أو الهجوم. كان العدو الإسرائيلي قد نجح في احتلال رقعة كبيرة من أرض الوطن شبه جزيرة سيناء كلها.. وأصبحت قواته تتمركز على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس، بينما الضفة الغربية لقناة السويس التي لايفصلها عن الضفة الشرقية حيث يتمركز العدو سوى عشرات من الأمتار، لايوجد عليها خط دفاع مصري حقيقي. وأهم وأخطر من ذلك كله.. أن السماء المصرية كانت شبه مفتوحة تماما، حيث لم نكن نملك عددا كافيا من الطائرات نستطيع بها مواجهة طيران العدو إذا حاول الاعتداء على المدن المصرية. باختصار.. كان الطريق من السويس الى القاهرة مفتوحا دون أدنى مقاومة.. وكان الكل في ذهول.. متأثرا بالصدمة من هول المفاجأة التي نجمت عن الهزيمة العسكرية السريعة للقوات المسلحة. ولهذا لم يكن غريبا ولا مفاجئا أن يعيش الإسرائيليون في نشوة الاحساس بعدم قدرة أحد على مجرد التحدي لأسطورة التفوق والجندي الذي لا يقهر. وطوال ست سنوات ما بين نكسة يونيو 1967 وحتى وقوع زلزال العبور في 6 أكتوبر 1973 كان هناك احساس عام سواء داخل إسرائيل أو في معظم الأوساط الدولية، بأن إسرائيل تملك تفوقا عسكريا ساحقا، يمكنها من حسم أي تهديد تتعرض له استنادا الى قوة جيشها الذي يحتفظ دائما بزمام المبادأة في يديه.. ويقدر على إجهاض أي محاولة لتحدي قوته وهي مازالت في طور النيات وأنه حتى إذا نجح العرب في أن يصنعوا المعجزة المستحيلة، وأن يبدأ بالضربة الأولى، فإن إسرائيل تستطيع في ساعات محدودة أن تنقل الحرب الى أرض خصومها، وأن تؤمن سلامة العمق الإسرائيلي من أي مخاطر، وأن تحسم الصراع بأسلوب الحرب الخاطفة التي تجيدها! وكانت حالة اللاسلم واللاحرب قد طالت، وأدت الى ارتفاع جدار الوهم الإسرائيلي بعدم قدرة العرب على تغيير الأمر الواقع وضرورة استسلامهم للشروط الإسرائيلية.. وساعد على ذلك أن دعوات اليأس والاحباط قد تعالت في معظم العواصم العربية من طول فترة السكون على جبهات القتال! وكانت معظم الحسابات العلمية والعسكرية تقدر حاجة العرب وخصوصا مصر الى ما يقرب من 50 عاما على الأقل، لتجهيز الاستعدادات اللازمة لعبور قناة السويس كحاجز مائي بالغ الصعوبة، ثم اقتحام خط بارليف، الذي يتجاوز في تحصيناته ومناعته كل ما عرف عن الحصون العسكرية الشهيرة في التاريخ الحديث، مثل خط سيجفريد الألماني، وخط ماجنيو الفرنسي.ولكن القوات المصرية المسلحة كان لها رأي آخر.. احتفظت به لنفسها ولم تبح به لأحد.. حتى وقعت الواقعة ظهر يوم السادس من أكتوبر. عن صحيفة الوطن القطرية 12/10/2008