إنما الهِمم العزم ما بقي، وبعد النظر وما استوجب من تبصر وحكمة وروية. فإن سقط الأول شهيدا عمِيت القلوب والأبصار. وإن غاب الثاني استحال الأفق الكبير كوةً من ظلام.
وفي عراق 'المنطقة الخضراء' ضاع بين 'بليكس' و'ويكيليكس' العقل الشريد في متاهة الخوف والموت المكفن بالديمقراطية.
فبحجم القنابل العنقودية التي دكت سماء بغداد في أكبر جريمة حرب عرفتها البشرية، أراد مسربو الوثائق على موقع 'ويكيليكس' أن يكون وَقع ظهورها على العراقيين أولا وعلى الأمريكيين ثانيا ليتجاوزهم إلى مناطق عدة في العالم نام أهلها غافلين عما ترتكبه أكبر دولة من جرائم فظيعة في العراق وإفغانستان وباكستان.
هذه هي أمريكا إذن ولا وجود لدولة يمكن أن تضاهيها في قدرتها الهائلة على التدمير في ساحة الحرب من جهة، وفي حبكها للعبة الإعلام.
وتحويله إلى سلاح استراتيجي به تستبق الأحداث، وعليه تعول في رسم معالم سياستها الخارجية، بما يضمن مصالحها ويثبتها القوة العظمى من جهة أخرى.
إنها قدرة دولة لا راد لأمرها تمتلك أحدث وسائل التنويم والتخدير والقتل، وتتحكم في التكنولوجيا التي تضمن بعث الحياة في الصحراء.. هذه الدولة المنفلتة مِن كل القوانين والأعراف الدولية، تمارس التصفية العرقية في كل أرض يطأها جيشها من دون محاسبة أو مراقبة.
وتجبر مجلس الأمن على منحها تفويضا بالقتل، وضمانا بعدم محاسبتها على الجرائم التي ترتكبها في حق الإنسانية. وفي المقابل لا تتورع عن إقامة محكمة تحاسب فيها الدول على سجلها في حقوق الإنسان.
إذن ظهرت فجأة وثائق 'ويكيليكس' مواصلة للعبة قديمة تتجدد أساليبها الصادمة، يمارسها الساسة المتحالفون مع أصحاب المال في أمريكا لربح معركة انتخابية، أو للتغطية على ما هو أفظع.
وتحريك الرأي العام، وتوجيهه إلى حيث يريد المال والجاه. وخرجت إلى العلن دفعة واحدة أكثر مِن أربعمائة الف وثيقة كانت نائمة في الرفوف والصدور.
ثم تسربت بقدرة قادر إلى موقع يسيره أبرياء عقلاء مستقلون ومترفعون عن العمل السياسي، لا يبغون إلا حماية الإنسان في كل مكان من العالم.
لكن الأسئلة الحارقة التي تطرح:
لماذا تم تسريب هذه الوثائق في هذا الوقت بالذات؟
ولصالح مَن تظهر كل هذه الحقائق؟ هل استيقظ الضمير فجأة ليحاكم الفاعل نفسه محاكمة علنية يعتذر فيها عن جرائمه ويتعهد بعدم تكرارها؟
وهل يمكن لعاقل خبر ألاعيب الساسة في أمريكا أن يتصور أن تسريب هذه الوثائق تم خارج سيطرة المخابرات الأمريكية؟
هل يطمئن متابع لما يجري أنها فوجئت بظهور هذه الوثائق السرية على الموقع؟
لقد ظهرت هذه الوثائق في وقت دقيق تحكمه محطات سياسية مهمة في أمريكا والعراق على حد السواء. ففي أمريكا المنافسة على أشدها بين الديمقراطيين والجمهوريين في معركة التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس.
ولا شك في أن كل خصم يريد أن يستغل فشل الآخر لربح مقاعد إضافية. فهل تعد هذه الوثائق شهادة إدانة للجمهوريين الذين تورطوا في المستنقع العراقي مع زعيمهم السابق جورج دبليو بوش؟
أما في العراق فالوضع لا ينبئ بظهور انفراج سياسي بعد إصرار المالكي على البقاء في منصب رئيس الوزراء، عبر تحالفات لا تخلو من روائح طائفية بحتة، ومن مصالح سياسية ضيقة تحكم العلاقات بين الكتل السياسية المتناحرة.
والمالكي الجامع بين الماء والنار باعتباره حليفا لإيران وأمريكا العدوتين في الظاهر والمتآمرتين على الجسد العراقي بالنهش والتمزيق على أرض الواقع.
أمسى غير مرغوب فيه أمريكيا بعد أن انكشفت أوراقه، وزالت المصلحة من وجوده لاسيما وقد أدى دوره في الاتفاقية الأمنية التي مازالت لغزا وسرا من أسرار أمن الدولة في العراق.
فهل أرادت أمريكا بتسريب هذه الوثائق في هذا الوقت بالذات فضح المالكي، وفك الارتباط مع المرتبط سياسيا ووجدانيا وطائفيا بإيران؟
هل حسمت الولاياتالمتحدة أمرها في شأن زواج المتعة الذي جمعها بإيران واختارت طلاق الإنشاء؟
ثم أين جانب السرية في الوثائق التي ظهرت؟
ألم يكن الجميع على علم بأن المالكي وجماعته عصابة من المجرمين تتخفى وراء العمامة الإيرانية لتزرع الموت والرعب في صفوف الشعب العراقي؟
إن ما يحاول الأمريكان تسويقه على أنه معلومات سرية موشوم على أجساد العراقيين، ومحفور في ذاكرة مَن قاده القدر إلى أقبية الموت وسجون الديمقراطية القادمة على دبابة أمريكية.
فلماذا ظهرت قضايا التعذيب المفضوحة في هذه التقارير، وغابت أسرار عقود النفط التي يتناوب على سرقته البارزاني وطالباني وشيعة الفرس بالعراق؟
لماذا صمتت هذه الوثائق عن حصة مقتدى الصدر في الصفقات النفطية؟
إذن، واهم من يعتقد أن مسرب هذه الوثائق حزين لرؤية دم العراقي المسكين الذي يعيش بغصة في عراق المالكي ويموت بالصدفة عند مرور رتل من الجيش الأمريكي أو مجموعة من سيارات فرق الموت الطائفية.
إن وثائق 'ويكيليكس' زوبعة أمريكية في فنجان عراقي .
وهي بعض الشر الذي يراد به كل الباطل بدءا من التوقيت وصولا إلى المضامين المجهولة أمريكيا كذبا ونفاقا، والمعلومة عراقيا، معاناة وتعذيبا في السجون الطائفية والأقبية.