طلعت رميح تتمايز معركة الاحتلال وتحرير أفغانستان عن نظيرتها في العراق، بأن المحتل لأفغانستان يرفع هناك راية حلف الأطلنطي، بينما المعركة في العراق تجري ضد قوات الاحتلال الأمريكية وحدها.
ومن قبل حين كانت هناك قوات أخرى- من دول غربية أخرى- فهي كانت في وضع مختلف، إذ جاءت للعراق وفق اتفاقيات ومقايضات جرت بين الولاياتالمتحدة وكل دولة على حدة ، دون رفع راية حلف الأطلنطي.
وإذا كان المستقر حاليا في كل التحليلات والرؤى الموضوعية، هو أن المقاومة العراقية هي من أوقف المشروع الأمريكي في منطقتنا، أو هي من أعطب ما سمي بمشروع الشرق الأوسط ( الأمريكي) الجديد.
فإن السؤال حول "الدور الإسلامي" – يمكن القول الإقليمي - لحركة التحرير الأفغانية – بعيدا عن تحرير أفغانستان ذاتها – لا يزال في حاجة إلى بحث وتمحيص خاصة وأن طالبان تواجه عدة خصوم أو أعداء في ذات الوقت ، أبرزهم الصراع العسكري المباشر ، ضد حلف الأطلنطي بصفته التحالفية، فضلا عن الصراع العسكري المباشر مع قوات الولاياتالمتحدة.
عند بدء المواجهة والحرب في أفغانستان، كانت الولاياتالمتحدة هي الخصم والعدو، لكن الضربات الإستراتيجية التي تلقتها القوة الإستراتيجية الأمريكية في العراق أدخلت المخطط الأمريكي في حالات المساومة واقتسام المصالح.
مع الدول الغربية الأخرى المنصوبة تحت رعاية حلف الأطلنطي ،الذي حضر بقوته العسكرية لاحتلال أفغانستان، تحت القيادة الأمريكية بطبيعة الحال.
لقد أصبحت أفغانستان، هي الدولة الأولى التي تشهد خروجا لحلف الأطلنطي على دوره ومهامه التي تمددت منذ تشكله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ كان في مواجهة حلف وارسو ضمن حدود أوروبا ، وعلى حدود الشرق الأوسط عند الحدود التركية دون تواجد عسكري كاحتلال في داخلها.
إذ لم تكن مصادفة أن تكون الدولة الأولى التي تشهد هذا التغيير في دور ومهام حلف الأطلنطي – المقتصرة على أوروبا – هي دولة إسلامية، فإن كثيرا من الأمور والتحولات المستقبلية ، تصبح متوقفة على نتيجة هذا الصراع ، ومؤثراته الإستراتيجية .
أو لنقل إن انتصار حركة طالبان وتحقيقها هزيمة إستراتيجية لحلف الأطلنطي ، سيكون في ذات المقام والدور الذي لعبته المقاومة العراقية حين أفشلت وأجهضت مشروع الشرق الأوسط (الأمريكي) الجديد، لكن هذه المرة هي ستوقف هذا التحول الذي ظهر في أفكار واتجاهات التخطيط الإستراتيجية لحلف الأطلنطي، بالإقدام على احتلال دول إسلامية.
أفغانستان الآن ، هي الاختبار الأخطر للأمة و لحلف الأطلنطي معا، فإذا هزم هذا الحلف على يد طالبان ، فذلك يوقف على نحو أو آخر ، ذاك التوجه الجاري في رؤية و إستراتيجية الحلف ، بالتدخل العسكري في دول إسلامية أخرى، ظهر منها في مرحلة بداية غزو أفغانستان ، الأراضي الفلسطينيةالمحتلة.
إذ "جرت" اختبارات حقيقية للرأي العام العربي والإسلامي والغربي ، بشأن احتمال وجود قوات من حلف الأطلنطي على الأراضي الفلسطينية ، بحجة حماية الشعب الفلسطيني.
أو للفصل بين "الأراضي الفلسطينية والأراضي المحتلة عام 48 " و ضمن إطار التسويات المطروحة الآن ، وأهمها فكرة "الدويلة" الفلسطينية المتعثرة المولد .
وهو ما يعني – إذا حدث-أن قوات الأطلنطي ستحل محل القوات الإسرائيلية في فلسطينالمحتلة عام 67 أو ما بقي منها ، ليتكرر على نحو أو آخر ما جرى في أفغانستان.
واقع الحال، أن حركة طالبان الأفغانية تقود أشرس مواجهة عرفتها حركة تحرير، إذ القوات والدول المشاركة في احتلال أفغانستان، وتلك الرافضة لوصول طالبان للسلطة مجددا هي دول لا حصر لها ولا عد.
حتى يمكن القول بأن الشرق و الغرب ، قد اجتمعا على شيء واحد هو الحرب على حركة طالبان ، التي تقاتل في "إقليم " تتجمع فيه كل الدول الكبرى دون استثناء ، القديم منها و الصاعد الجديد ، إلى حكم العالم والتحكم بمصيره .
في هذا الإقليم ، تتواجد الهند، وهي القوة العظمى الصاعدة المزاحمة على التأثير والنفوذ العالمي، والتي ترى وصول طالبان إلى حكم أفغانستان، بمثابة عودة الروح والقدرة والعمق الإستراتيجي لعدوها التقليدي باكستان، إذ لا باكستان قوية و ذات عمق إستراتيجي في مواجهة الهند ، دون ارتباط وثيق مع أفغانستان.
وهي تعلم وغيرها طبيعة العلاقة الإستراتجية بين باكستان وطالبان، والمعني أن الهند تقف في مواجهة طالبان لذاتها الإسلامية ، و لعلاقتها الإستراتيجية مع باكستان.
ولأن وجود حكم في كابول على علاقة إستراتيجية مع الهند ، إنما هو بمثابة التطويق الإستراتيجي لباكستان ، وربما هو ما يحقق المخطط الهندي الهادف إلى تفكيك باكستان للمرة الثانية ، بعدما جرى تقسيمها من قبل ، بفصل بنجلاديش عنها.
وفي هذا الإقليم تتواجد الصين ، التي تنظر للحركة الإسلامية في تركستان الشرقية (التي احتلتها القوات الصينية منذ نحو قرن ) كمكون وشق ثان مكمل للتوجه الإسلامي الذي تمثله طالبان في أفغانستان .
ولذا فإن بعد هزيمة الولاياتالمتحدة وحلف الأطلنطي، لن تتوقف نتائجها على الغرب وحده ، ستمتد آثاره للتأثير على مصالح الصين واستقرارها ، إذ هو سيعطي اندفاعة للحركة الإسلامية في تركستان الشرقية ، أي في إقليم جي جانغ.
وعلى مرمى حجر في هذا الإقليم، تقف روسيا في جاهزية الاستعداد لمواجهة ما بعد هزيمة الأطلسي و الولاياتالمتحدة .
فإذا كان الأمر الوحيد (تقريبا) الذي يجمع الصين و الهند و هما عدوان إستراتيجيان لبعضهما البعض- هو العداء لحركة طالبان ، فإن أهم ما يجمع بين الروس والغرب الآن (وحلف الأطلسي و أمريكا ) هو مواجهة حركة طالبان.
وهو ما تجسد في سماح روسيا للطائرات الأمريكية بعبور الأجواء الروسية (في حادث فريد من نوعه) حاملة المؤن والزخائر لقواتها في أفغانستان .
روسيا يتزايد شعورها بالخطر من الحركة الإسلامية ، باعتبارها في مواجهة فعلية في الشيشان و داغستان وأنجوشيا مع تلك الحركة، وحتى تنظر للحركة الإسلامية على أنها الوحيدة القادرة على استنزافها وربما القيام بفعل تفكيكي لروسيا من داخلها.
وأنها الآن تقف في وجه محاولة روسيا مد نفوذها ومحاولات عودتها إلى دول الاتحاد السوفيتي السابق ، التي تحاول إعادتها لحظيرتها وضمن مناطق هيمنتها ، خاصة طاجيكستان وأوزبكستان و تركمانستان .
بل إن المعركة الجارية الآن في قرغيزستان، صارت تشهد إعادة روسية لقراءاتها وتكييف نظرتها لها ، فباتت تتحدث على أن "تيارات إسلامية متطرفة " في هذا البلد، هي من يقف خلف الأحداث الداخلية المتفجرة فيها .
وعلى الحدود مباشرة، تتواجد إيران التي تعتبر وصول طالبان إلى الحكم في أفغانستان ، بمثابة الخنق الإستراتيجي لها، حتى يمكن القول إن خروج حلف الأطلنطي و الولاياتالمتحدة مهزومين من أفغانستان ، سيعني فوريا حالة اندفاع إيرانية للصراع ضد حركة طالبان من خلال القوى الموالية لإيران – على الأقل – في أفغانستان .
إيران كانت وصلت حافة الحرب مع أفغانستان وقت سيطرة طالبان على الحكم ، وهي كانت أحد الداعمين لتحالف الشمال (مع روسيا والهند و أمريكا ) وقت الصراع الداخلي في هذا البلد، وهي من بعد لعبت أسوأ الأدوار خلال العدوان الأمريكي على أفغانستان في بداية الحرب الحالية .
فإذا انتصرت طالبان، وجرت في العراق تغييرات مضادة للنفوذ الإيراني كما تشير التداعيات الحاصلة منذ بداية دورة الانتخابات الأخيرة وحتى الآن، فإن إيران تصبح داخل طوق إستراتيجي تكمله باكستان.
وهكذا فإن المعركة التي تخوضها طالبان هي معركة ذات تأثيرات واسعة على الصعيد الإقليمي والدولي ، لكن الأصل يظل أنه من يقاتل على الأرض في مواجهتها الآن ، هو حلف الأطلنطي.
كانت البداية هي احتلال أفغانستان، ولو كانت الأمور قد صارت وفق ما كان مخطط لها في دوائر حلف الأطلنطي ، لكان الحلف قد أرسل قواته إلى العراق، لكن ما حدث في أفغانستان والعراق قد أجهض تلك الرؤية والخطة ، وجعل حلف الأطلنطي يعيد حساباته في ظل تنامي الدعوات من بعض دول الحلف للإسراع بالانسحاب من أفغانستان.
وهو ما جعل أمين عام الحلف يجهر بالطلب من الدول الأعضاء بعدم الحديث عن تحديد مواعيد لسحب قواتها من هناك ، حتى لا يقوي مثل هذا الحديث من عزيمة وقوة حركة طالبان والقاعدة .
لكن التغيير الحاصل في "الرؤية الفكرية والإستراتيجية" لحلف الأطلنطي منذ احتلال أفغانستان ، يظل مقلقا على نحو كبير ، في ظل التصريحات والتحليلات التي تقول إن الحلف يعتبر "الخطر الإسلامي" ، في مقدمة أولويات ما يواجه حلف الأطلنطي على الصعيد الدولي .
فالمتابع للتطورات الخاصة بالحلف ، يلحظ أن "نظرية محاربة الإرهاب" التي أرستها الولاياتالمتحدة في زمن الارهابي جورج بوش ، و الخوف من عودة الخلافة – حسب التصريحات الأشهر لجورج بوش - أو من وحدة الأمة الإسلامية وبناء كيان سياسي جامع لدولها.
والقلق المتصاعد في الدول الغربية من توسع ونمو دور الجاليات الإسلامية في داخلها ، كل ذلك قد أصبح أحد الأسس في فكر حلف الأطلنطي وخططه ورؤاه، وهو ما تجسد في اختيار أمين عام الحلف الجديد راسموسين، والمعروف بمساندته في بلاده قبل احتلال هذا المقعد، للفعل المتطرف بنشر صور مسيئة للرسول صلي الله عليه وسلم .
الأمر الذي دفع تركيا للاعتراض طويلا – وقتها- باعتباره عضوا في الحلف على توليه هذا المنصب ، حتى أن تسوية جرت معها بتدخل أمريكي، جرى من خلاله احتلال ممثل لها أحد المقاعد القيادية في إدارة الحلف.
أن ثمة أمورا كثيرة على الصعيد الإقليمي والدولي ، ستترتب على هزيمة طالبان لحلف الأطلنطي والولاياتالمتحدة في الحرب الجارية في أفغانستان .
وأن دور حركة طالبان في هذه المواجهة ونتائج ما ستحرزه من انتصار ، تتخطى حدود أفغانستانوالإقليم المحيط بها ، إلى الوضع الإسلامي العام ولطبيعة التحولات التي جرت في أفكار وخطط حلف الأطلنطي بشأن طبيعة المواجهة مع العالم الإسلامي ودوله بصفة عامة. وفي المناطق التي تجري فيها نزاعات حاليا بصفة خاصة.
لذلك فإن مشوار تحقيق الانتصار في أفغانستان هو مشوار طويل بقدر التحديات والتغيرات المترتبة على هذا الانتصار ، لكن الأهم فيها – والجدير بالمتابعة الدائمة- هو دراسة التغيير الحاصل في توجهات حلف الأطلنطي سابقا ، والتغييرات المحتملة إذا انتصرت بإذن الله طالبان في أفغانستان.