رسمت السياسات والاستراتيجيات العسكرية الأمريكية خلال العقد الآخذ في الرحيل ملامح الأوضاع السياسية والاقتصادية في أفغانستانوباكستان. فهى مازالت حتي اللحظة الراهنة تتسم بقدر من الاضطراب وعدم الاستقرار, وكأنه قد قدر لتلك المنطقة ألا تعرف معني الاستقرار لعقود متتالية, فما كادت أفغانستان تنعم ببعض الاستقرار النسبي عقب طرد القوات السوفيتية المحتلة عام 1989والتخلص من النزاع بين الفصائل الأفغانية في الحرب الأهلية (1992-2001) وهدوء الصراع بين أمراء الحرب بتمكن حركة طالبان من هزيمة قوات تحالف الشمال بقيادة الطاجيكي أحمد شاه مسعود والجنرال الأوزبكي عبد الرشيد دوستم بعد أن وصلت إلي السلطة في كابول وحكم البلاد والتخلص من أحمد شاه مسعود باغتياله في تفجير انتحاري علي أيدي منفذين عرب قبل يومين فقط من هجمات سبتمبر, حتي تفجرت الأوضاع والحرب مجددا فقد كانت أيام طالبان في الحكم مجرد هدوء ما قبل عاصفة الحرب علي الإرهاب. وقد جر تحالف حركة طالبان مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن أفغانستان إلي حرب غيرت معالم التركيبة السياسية ووجه الحياة في أفغانستان, بل إنها أدت بالفعل إلي انهيار الدولة الأفغانية وجلبت الاحتلال الأجنبي للبلاد مجددا. فقد قررت أمريكا في ثورة غضبها عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الانتقام لكرامتها ورد الاعتبار إلي هيبتها السياسية والعسكرية ومكانتها في العالم كقوي عظمي عقب توجيه ضربة إرهابية قاسية لها في عقر دارها من تنظيم القاعدة بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وضرب مقر وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون. لذا قررت أمريكا في عهد الرئيس جورج دبليو بوش خوض حرب عالمية ضد الإرهاب تبدأ بؤرتها من أفغانستان, التي بدت وكأنها من دول محور الشر الذي يضم دولا معادية لأمريكا حسب تصنيف الرئيس بوش آنذاك ومن بينها كوريا الشمالية وإيران والعراق. فقامت المقاتلات الأمريكية والبريطانية بقصف مكثف لمعاقل طالبان والقاعدة في إطار عملية تصفية حسابات حملت اسم تحقيق الحرية وقامت بغزو بري بعناصر القوات الخاصة والمخابرات المركزية الأمريكية, كما تحالفت مع قوات الشمال الأفغاني لتكون النتيجة الإطاحة بنظام طالبان المؤيد والداعم القوي للقاعدة في أكتوبر عام 2001, أي بعد شهر واحد من وقوع هجمات11 سبتمبر, ويلي ذلك فرار أسامة بن لادن ومساعده أيمن الظواهري واستمرارهما هاربين حتي اليوم. ولتسقط أفغانستان في براثن الحرب مجددا وإلي الآن دون أن تتمكن الولاياتالمتحدة وحلفاؤها من قوات حلف الأطلنطي وبرغم إنفاق المليارات من الدولارات كنفقات عسكرية في القضاء علي تنظيم القاعدة أو إلحاق هزيمة نهائية وحاسمة بمقاتلي حركة طالبان. وسقطت أفغانستان ضحية صراع قائم علي فكر أيديولوجي بين تنظيم القاعدة وفكرها الجهادي وفكر الحرب علي الإرهاب وعقيدة بوش المستلهمة من أيديولوجيا المحافظين الجدد, وكلاهما فكر متطرف جر علي أفغانستان والشعب الأفغاني الدمار وانهارت معه دعائم الدولة الأفغانية. فالغزو الأمريكي الذي أطاح بحكومة طالبان بقيادة الملا عمر في أكتوبر 2001لم تعرف معه أفغانستان الاستقرار حتي الآن, وذلك علي الرغم من تشكيل قوات إيساف الدولية بتفويض من الأممالمتحدة للحفاظ علي الأمن في أفغانستان ومساعدة حكومة الرئيس حامد كرزاي الذي تم تنصيبه لحكم البلاد بمباركة أمريكية والذي يصفه خصومه بأنه دمية في أيدي أمريكا والغرب. ديمقراطية أمريكا الزائفة وبرغم مزاعم أمريكا جلب الديمقراطية إلي أفغانستان بإجراء انتخابات رئاسية مرتين وأخري محلية وبرلمانية إلا أن تلك الديمقراطية مازالت منقوصة وتشكك فيها المعارضة, كما أن حكومة كرزاي لم تقدم إنجازات تذكر للنهوض بالبلاد وتحقيق التنمية علي الصعيد الاقتصادي والاجتماعي, بل هي حكومة تواجه اتهامات بالفساد مما يحرج قيادات أمريكا وبريطانيا أمام شعوبهم لدعم حكومة فاسدة. وقد جرت انتخابات رئاسية في أفغانستان عام4002 فاز فيها كرزاي بنسبة 55 % وحكم لمدة خمس سنوات قبل أن تجري الانتخابات الرئاسية الثانية عام 2009, وكشفت عن الوجه الحقيقي لكرزاي حيث لجأ إلي التزوير للاستمرار في السلطة. وتمر أفغانستان الآن بعملية إعادة البناء والإعمار عقب الحرب المدمرة لبنيتها التحتية المهترئة ومازالت مستمرة حتي اللحظة بعمليات متقطعة تستهدف طالبان وعناصر القاعدة وتشنها القوات الأمريكية بمساعدة طائرات بدون طيار تقوم بقصف صاروخي لمقاتلي طالبان وغالبا ما تسقط ضحايا من المدنيين مما يثير استياء الشعب الأفغاني ضد الأمريكيين. وتتسم عمليات إعادة الإعمار في أفغانستان التي يقوم بها المجتمع الدولي بالبطء, فالمشوار مازال طويلا نظرا لحاجة البلاد إلي مليارات الدولارات لاستكمال الإعمار وإعادة البناء ولكنها مازالت تواجه تحديات تتعلق بتمرد طالبان وانتشار الفساد المتفشي في نسيج النظام السياسي وحكومة كرزاي. استراتيجية أوباما وقد قامت قوات الناتو والجيش الأفغاني الذي سعت القوات الأمريكية لإعادة تأهيله في السنوات الأخيرة بهجمات كثيرة ضد حركة طالبان خاصة في قندهار, ولكنها أثبتت عدم جدواها في القضاء علي التمرد, وقام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمراجعة الاستراتيجية العسكرية في أفغانستان وعزز القوات بثلاثين ألف جندي إضافي خلال ستة أشهر, كما استعان بخبرات قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس لتنفيذ استراتيجيته في أفغانستان حيث يرغب الرئيس أوباما في إنجاز أكبر قدر من المهمة في تدمير القاعدة قبل بدء الانسحاب من أفغانستان في 2012. فأمريكا أوباما التي ورثت إرثا ثقيلا من المشكلات والحروب والأزمات من سابقه بوش أبرزها حربان تخوضهما في العراق وأفغانستان أصبحت أكثر ميلا إلي فكرة الانسحاب وتصفية هذا الإرث الثقيل الذي يثقل كاهلها خاصة في ظل الأزمة المالية العالمية التي غرق فيها الاقتصاد الأمريكي وزيادة معارضة الأمريكيين للحرب علي العراق وأفغانستان, ولكن إدارة الرئيس أوباما تجد نفسها ملتزمة بقضية الأمن القومي وتأمين بؤر عدم الاستقرار التي قد تهدد المصالح الأمريكية مستقبلا خاصة في العراق وأفغانستان وفي منطقة وزيرستان علي الحدود بين باكستانوأفغانستان, فهي ترغب علي أقل تقدير إن لم تتمكن من هزيمة الإرهاب والإرهابيين أن تضمن عدم خطورتهم علي أمنها وأمن حلفائها ومواطنيها, فضلا عن ابتعادهم والعناصر المتطرفة والطالبان عن الجيش الباكستاني وحماية سلامة الترسانة النووية العسكرية لإسلام أباد من الوقوع في قبضة تيارات ذات ميول طلبانية حتي لا تهددها وتهدد الغرب. ومع الدخول في العقد القادم فإن الأمور تسير علي الأرجح إلي انسحاب مرحلي للقوات الأمريكية والأجنبية مع الإبقاء علي بعض القوات أو القواعد العسكرية الدائمة مثل قاعدة باجرام الجوية الأمريكية التي تضمن تأمين المصالح الأمريكية وسرعة الانتشار في حال تفجر أي صراع عسكري في منطقة آسيا الوسطي, خاصة أن الملف النووي الإيراني مازال شائكا وجميع الخيارات مفتوحة أمام واشنطن, وعلي الصعيد السياسي الداخلي فإن حكومة كرزاي باتت علي قناعة بأنه لا جدوي من الصراع العسكري مع طالبان ولابد من مصالحة تسهم في استقرار الأوضاع في أفغانستان وهي مستعدة لصيغة حوار تؤدي إلي تفاهم يتم به وقف نزيف الدم الأفغاني والحفاظ علي مصالحها ومكتسباتها السياسية من خلال مصالحة مع طالبان, وتبقي تلك العملية مرهونة بمدي تجاوب طالبان ورضا أمريكا عن طريقة ومضمون المصالحة. وبالنسبة لباكستان المجاورة فقد شهدت تطورات سياسية وعسكرية هامة وجذرية خلال ذلك العقد. فجر الانقلاب العسكري يشرق مجددا في 20يونيو 2001نصب الجنرال برويز مشرف نفسه رئيسا لباكستان وقائدا أعلي للقوات المسلحة وذلك عقب استقالة رئيس باكستان آنذاك رفيق تارار المثيرة للجدل قبل أن يشرع مشرف في محادثات تاريخية مع الهند في أجرا. وعقب إجراء الانتخابات البرلمانية في عام2002 نقل مشرف بعض الصلاحيات التنفيذية إلي رئيس الوزراء المنتخب ظافر الله خان جمالي الذي خلفه في منصب رئيس الوزراء شوكت عزيز المقرب من مشرف. وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر تحالف الجنرال مشرف مع الولاياتالمتحدة وتخلي عن دعم حكومة طالبان في أفغانستان والتي دعمتها بلاده طويلا من منطلق عقائدي وكذلك من أجل تعزيز المصالح السياسية لباكستان في المنطقة, بل إن حركة طالبان نشأت من قلب مدارس الشريعة في باكستان وجاء هذا التحول عقب التهديد والتحذير قوي اللهجة من الرئيس بوش الذي أكد فيه أنه من ليس معنا في الحرب علي الإرهاب فهو ضدنا. لذا فقد تغير موقف مشرف إزاء طالبان ووافق علي منح أمريكا حق استخدام ثلاث قواعد جوية عسكرية في غزو وقصف أفغانستان وقد التقي مشرف مع وزير الخارجية الأمريكية كولن باول ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس لتنسيق المواقف في الحرب علي الإرهاب. وقد برر الرئيس مشرف هذا التعاون مع واشنطن وإدارة بوش بخطاب للأمة الباكستانية, مؤكدا أنه في الوقت الذي يرفض التكتيكات العسكرية ضد طالبان فإنه يخشي من باكستان مهددة بمخاطر تحالف بين عدوتها التقليدية جارتها النووية الهند والولاياتالمتحدة إذا لم تتعاون مع واشنطن في الحرب علي الإرهاب. وبتلك السياسة التي انتهجها الرئيس مشرف تحسنت العلاقات بين إسلام أباد وواشنطن عقب وقف دعم طالبان وكان من الآثار الإيجابية لتلك السياسة زيادة المساعدات العسكرية الأمريكيةلباكستان بواقع أربعة مليارات دولار إضافية خلال ثلاث سنوات, وعلي الجانب الآخر حملت باكستان أعباء مستمرة إلي اليوم نتيجة تشريد نحو ثلاثة ملايين لاجئ فروا إليها من جراء الحرب الدائرة في أفغانستان المجاورة. وعلي الرغم من ذلك فقد ظلت وسائل الإعلام الأمريكية وبعض المسئولين الغربيين يكيلون الاتهامات لباكستان بأنها لا تبذل قصاري جهدها في الحرب علي الإرهاب ومنذ عام 2004والقوات الباكستانية تقاتل ضد حركة طالبان باكستان وشنت الجماعات المسلحة المتطرفة هجمات وتفجيرات انتحارية قتلت خلالها أكثر من ثلاثة آلاف من المدنيين والقوات المسلحة في المدن الباكستانية عام 2009وحده. وقد نجا الرئيس مشرف من عدة محاولات اغتيال اتهم فيها تنظيم القاعدة مع تكثيف أجهزته وقواته الأمنية لحربها ضد الإرهاب وعناصر القاعدة وطالبان في البلاد. وقد أسهمت جهود المخابرات الباكستانية في اعتقال خالد شيخ محمد العقل المدبر لهجمات سبتمبر. وفي أوج الصراع وخوض الحرب علي الإرهاب ضد القاعدة وطالبان والمسلحين خاصة في وزيرستان زادت مخاوف الغرب بشأن تأمين ترسانة باكستان النووية العسكرية وأثيرت الشكوك والقلق بشأن إمكانية اختراق عناصر ذات ميول لطالبان مواقع حساسة في الجيش الباكستاني أو تسرب التكنولوجيا والمواد النووية للإرهابيين أو دول معادية للولايات المتحدة. استياء من سياسات مشرف وقد أثارت سياسات مشرف الموالية للغرب خاصة الولاياتالمتحدة التي اعتبرته من أبرز حلفائها في الحرب علي الإرهاب استياء شعبيا ومن جانب المعارضة الباكستانية التي رأت في استمرار مشرف جنرالا قائدا أعلي للجيش ورئيسا للبلاد يتنافي مع الشرعية خاصة مع حكم البلاد في ظل قوانين الطوارئ واتهامه بالديكتاتورية والاستبداد والابتعاد عن النهج الديمقراطي. وعلي صعيد تعزيز صورته ووضعه السياسي فقد سعي مشرف إلي العمل من أجل تقنين وضعه وإضفاء الشرعية علي رئاسته لباكستان وكسب التأييد الشعبي عبر إجراء انتخابات عامة وهو التحرك الذي قامت به الجمعية الوطنية البرلمان الباكستاني في 15نوفمبر 2007بالدعوة إلي إجراء انتخابات في البلاد وتم السماح لكبار رموز السياسة والمعارضة في المنفي بالعودة إلي باكستان وعلي رأسهم رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف ورئيسة وزراء باكستان السابقة بي نظير بوتو. موعد مع الاغتيال جاءت بي نظير بوتو زعيمة حزب الشعب الباكستاني سليلة عائلة بوتو السياسية وابنة رئيس وزراء باكستان الأسبق ذو الفقار علي بوتو ولديها آمال عريضة في العودة مجددا إلي السلطة, فقد رأت أن المشهد السياسي في بلادها مهيأ لرياح التغيير وعودتها لرئاسة الوزراء بتحقيق فوز شبه مضمون علي مشرف ووصلت إلي أرض الوطن في أكتوبر 2007بعد أن توصلت إلي اتفاق مع الرئيس مشرف تم بمقتضاه منحها عفوا وإسقاط الاتهامات ضدها بالفساد. ولكن القدر لم يمهلها وكانت علي موعد مع الموت حيث اغتالها مجهول في27 ديسمبر2007 وسط فرحة أنصارها الذين احتشوا لتحيتها في مدينة روالبندي التي تحولت إلي حزن شديد خيم علي باكستان بأسرها لاغتيال تلك الزعيمة التاريخية في مأساة تراجيدية أسهمت في تغيير مسار الحياة السياسية في باكستان وكانت سببا لوصول زوجها للرئاسة. وقد حفز اغتيال بوتو باكستان المتعطشة للديمقراطية للانقلاب علي مشرف والتخلص من الحكم العسكري الذي سئمت منه بالانتقال إلي حكم مدني برئاسة زرداري. وقد اتهم بعض أنصارها الرئيس الباكستاني مشرف بالتورط في اغتيالها, بينما اتهم آخرون تنظيم القاعدة في الحادث قبيل أسبوعين فقط من إجراء الانتخابات الباكستانية العامة التي فاز بها حزب الشعب الباكستاني بالأغلبية وشكل تحالفا مع حزب الرابطة الإسلامية وتم انتخاب يوسف رضا جيلاني رئيسا للوزراء. وقد تصاعدت الضغوط ضد الرئيس مشرف ووسط تزايد المطالبة السياسية بعزله من السلطة قرر مشرف التنحي عن الرئاسة, وفي تطور درامي وخلال انتخابات الرئاسة تم انتخاب زعيم حزب الشعب الباكستاني آصف علي زرداري زوج الراحلة بي نظير بوتو رئيسا لباكستان عقب فوزه فوزا ساحقا ليصبح الرئيس الحادي عشر للبلاد منذ استقلالها في عام 1947. وعقب وصوله إلي السلطة مازال زرداري يلملم جراح باكستان وهو مستمر علي نفس النهج والسياسة الأمريكية المتعلقة بمكافحة الإرهاب. ولكن من الواضح أن باكستان وجارتها الشقيقة أفغانستان لن تعرفا طريقا نحو الاستقرار في الأمد المنظور, فقد ظلمتهما الجغرافيا والتطرف أيضا.