هل يستولي الأكراد علي كركوك بالقوة؟! عبدالزهرة الركابي كلما تُثار مسألة كركوك علي سطح الشأن السياسي في العراق المحتل، تعود بيّ السنون الي حقبتي السبعينيات والثمانينيات، حيث أمضيت في هذه المدينة الجميلة سنوات عدة، حراً ومعتقلاً، ولا أدري ماذا حل من خراب علي هذه المدينة في زمن الاحتلال وسطوة الميليشيات الكردية ؟، حتي إني أحببتها في مرها وحلوها، وعلي العكس من مسقط رأسي مدينة الديوانية الغافية علي شط الحلة المتفرع من نهر الفرات في منطقة الفرات الأوسط، فلم أستسغ مرها ومكابداتها المؤلمة التي مازالت تحز في نفسي كلما عاودني شريط الاجترار. مدينة كركوك وبغض النظر عن كونها مدينة تاريخية قد يكون الأكديون والآشوريون هم أول الأقوام التي سكنوها، حيث بينت الدراسات التاريخية ان الميديين المنحدرين من أعالي أذربيجان كانت أطماعهم تنصب عليها منذ عهد الدولة الآشورية التي واجهت حرباً متواصلة من الميديين في جبهة الشمال ومن الكلدان في جبهة الجنوب إبان قرون قبل الميلاد، وهي المدينة التي يمتد عمرها ثلاثة آلاف قبل الميلاد، ويبدأ تاريخها مع انبثاق النار الأزلية عام 550 قبل الميلاد في العهد الكلداني، التي مازالت مشتعلة حتي الآن، وسبب اشتعالها وجود الغاز المنبثق من تحت الارض، التي يطلق عليها في الوقت الحاضر (بابا كركر)، مع العلم إن هذه التسمية حديثة العهد نسبياً ولم تعرف قبل احتلال العثمانيين للعراق، وهي تعني بالعربية (أب النار). وفي الفترة الأخيرة احتدم الجدل البيزنطي علي هوية هذه المدينة التي يريد الأكراد الاستئثار بها، وبالتالي ضمها الي دويلتهم القائمة بشكل غير رسمي في شمال العراق، علي الرغم من ان آخر إحصاء لهذه المدينة في حقبة الخمسينيات منح التركمان أغلبية فيها، وهو واقع يدحض مزاعم الأكراد الحالية والسابقة من أن مدينة كركوك ذات غالبية كردية، لكن الأكراد وبحكم سيطرة ميليشياتهم عليها في ظروف الاحتلال المعروفة، قاموا بجلب آلاف الأكراد من الدول المجاورة للعراق وأسكنوهم فيها بدعوي ان هؤلاء من الأكراد الذين قام النظام السابق بتهجيرهم، والواقع ان الأكراد ليسوا وحدهم الذين طالهم عسف النظام السابق، فقد كان التركمان هم أكثر الفئات التي طالها هذا العسف. وعلي كل حال، ذكر المؤرخ حنّا بطاطو في كتابه العراق / الجزء الثالث مايلي : تقع كركوك وهي مركز نفطي علي بعد 180 ميلاً (280 كم)، الي الشمال من بغداد وكانت مدينة تركمانية بكل مافي الكلمة من معني. وبالإضافة الي الشهادة أعلاه فقد تناول هذا الأمر الكثير من المستشرقين الغربيين من الذين زاروا العراق في القرون المتأخرة، وقد أكد هؤلاء في معظم كتاباتهم علي ان هذه المدينة هي تركمانية بالدرجة الأولي، وكاتب السطور مثلما ذكرت سلفاً أمضي سنوات عدة فيها، حيث كانت اللغة التركمانية (طاغية) علي اللغات الأخري فيها، بينما شكل الأكراد المرتبة الثانية ديمغرافياً، فيما حل العرب بالمرتبة الثالثة، ويأتي بعدهم السريان والكلدان والآشوريون. وإذا كان العراق بفعل احتلاله وتحالف الأكراد مع هذا الاحتلال، يعيش في غفلة تاريخية وخطيرة في آن، خصوصاً وان الفئات والجماعات المشاركة في العملية السياسية تلهث وراء المصالح الضيقة والفئوية، فإن مانريد قوله، هو ان كركوك مدينة عراقية جامعة للفئات والأديان والأعراق، وهي في نفس الوقت مرأة للتنوع العراقي اثنياً ودينياً، وهذه المدينة مثلما هو معروف عنها تجمع عوامل عدة من ضمنها العوامل الإستراتيجية واللوجستية (تجاور خمس محافظات: أربيل، السليمانية، الموصل، تكريت، ديالي) بالإضافة الي ثرائها النفطي الذي يأتي بمردود ثلث نفط العراق، وهو أمر يعيه الأكراد جيداً حيث يعتبرون هذه الفترة فرصة لن تعوض كي يحصنوا دويلتهم مالياً وإقتصادياً وأمنياً. ووجه الإثارة في موضوع كركوك هو المادة 24 من قانون انتخاب مجالس المحافظات، حيث ان هناك ازمة سياسية حقيقية في الأوساط المشاركة في العملية السياسية، وتأتي هذه الإثارة بعد نقض القانون من قبل هيئة رئاسة الجمهورية، وكانت محافظة كركوك الساحة المفتوحة لتلك الازمة، فالعرب والتركمان يصرون علي تقسيمها الي اربع مناطق انتخابية وبحسب النسب المعروفة التي اعلن عنها، فيما يصر الأكراد علي جعلها محافظة واحدة شأنها شأن المحافظات الاخري واطراف اخري تؤيد مبدأ تأجيل الانتخابات فيها لحين الوصول الي حلول توافقية ترضي الجميع. وجدير ذكره ان الأكراد ضمّنوا الدستور الذي أُقر في عهد الحاكم الأمريكي بريمر المادة (140) التي في حال تنفيذها، تتيح لهم السيطرة علي كركوك ومناطق من الموصل وديالي في ظروف العراق غير الطبيعية، وهم من هذا التضمين يعتبرون ان تنفيذ المادة المذكورة هو الحل الوحيد لموضوع كركوك، ويأتي هذا الإصرار الكردي بعدما اقر قانون بشأن انتخابات مجالس المحافظات في الثاني والعشرين من يوليو الماضي ورفضه الأكراد بسبب المادة 24 الخاصة بإجراء الانتخابات في محافظة كركوك، بينما أيده العرب والتركمان الذين اعتبروا المادة 24 من القانون منصفة بحقهم، إذ تنص الفقرة 24 من قانون انتخاب مجالس المحافظات التي تناولت الوضع في محافظة كركوك تأجيل الانتخابات في المحافظة مدة ستة أشهر، مع ضرورة أن تكون القرارات في مجلس محافظة كركوك خلال مدة التأجيل بالتوافق بين المكونات الثلاثة الرئيسية (العرب - الأكراد - التركمان)، علي أن يتم تقاسم السلطة بينهم بنسبة 32% لكل مكون، فيما تعطي نسبة 4% للمسيحيين، فضلاً عن نقل الملف الأمني في المدينة إلي وحدات عسكرية مستقدمة من جنوب ووسط العراق بدلاً من الوحدات العسكرية العاملة حالياً التي جلها من الميليشيات الكردية (البيش مركة). وفيما يهدد الأكراد بضم هذه المدينة الي كيانهم الانفصالي عنوة إذا لم يتم تطبيق المادة 140 من الدستور الذي أعده الاحتلال، وتماشياً مع هذا التهديد فإن الميليشيات الكردية تحكم حصار مدينة كركوك من جميع الجهات، بينما في داخل المدينة تتمترس الميليشيات الفئوية في مناطقها، وأبرز هذه الميلشيات هي الكردية البيش مركة من الداخل والخارج وكذلك الميليشيات التركمانية، وهناك أيضاً الميليشيات العربية وأبرزها (جيش الناصر صلاح الدين). وفي هذا الصدد قالت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، إن المعركة بشأن كركوك ربما ستكون حادّة جداً، طبقاً لمعطيات الواقع العراقي الآن، والنزاع علي (تقاسم السلطة) في المدن المختلطة إثنيا (أي فيها أكثر من طائفة أو أكثر من قومية) تشعل فتيل عمليات إرهابية، تزهق فيها أرواح العشرات، وتسفر عن مئات الجرحي، كما حدث في كركوك خلال الفترة الأخيرة. مما تقدم، فإن معركة كركوك بكل محاورها، تظل ذات أبعاد عراقية عروبية من جهة وكردية انفصالية من جهة أخري وكذلك إقليمية تركية من جهة ثالثة علي اعتبار أن تركيا تدعي الحرص علي مصالح التركمان في المدينة، ومن هذا فإن الحرص الحقيقي علي وحدة هذه المدينة هو الذي يتمثل في بقائها مدينة عراقية جامعة، وهذا البقاء هو أصلاً الركيزة الأساسية لضمان بقاء العراق موحداً، لأن بخلاف ذلك سيكون الحافز متوثباً لتقسيم وتمزيق وحدة الأراضي العراقية تحت شماعة إقامة الفيدراليات وحكم الأقاليم. عن صحيفة الراية القطرية 14/8/2008