عبد البارى عطوان رئيس تحرير القدس لم يكد الشعب الفلسطيني يفيق من آثار صدمة فضائح السلطة، الجنسية والمالية التي وردت في شريط القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي، حتى انهالت عليه فضيحة أخرى لا تقل خطورة، تتمثل في تورط رجلي أمن فلسطينيين في جريمة اغتيال الشهيد محمود المبحوح احد مؤسسي كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة 'حماس'، أثناء زيارته لإمارة دبي في مهمة قيل انها لترتيب صفقات أسلحة الى قطاع غزة المحاصر.
سمعة الفلسطينيين التي كانت انصع من البياض نفسه باتت في الحضيض بسبب هذه الفضائح التي تزكم الأنوف.
ففي الوقت الذي تنشغل فيه القيادة الفلسطينية من ناحية، وحركة المقاومة الإسلامية 'حماس' من ناحية أخرى، في خلافاتهم حول وثيقة المصالحة، او السلام الاقتصادي، ينشط 'الموساد' الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته الارهابية لتصفية رموز المقاومة ورجالاتها، وتشويه سمعة الشعب الفلسطيني وتاريخه النضالي العريق.
الترهل لم يصب الأجهزة الأمنية الفلسطينية فقط، وانما نظيراتها العربية ايضا، فقد شاهدنا عملاء 'الموساد' يغتالون الشهيد عماد مغنية، قائد الجناح العسكري لحزب الله اللبناني في قلب دمشق، ويحاولون اغتيال السيد أسامة حمدان ممثل حركة 'حماس' في الضاحية الجنوبية في قلب بيروت، وينفذون جريمة اغتيال المبحوح بعد يوم من وصوله الى امارة دبي.
'سلام الشجعان' اعمى الانظمة العربية عن ابسط واجباتها الوطنية والقومية في توفير الحماية لأمنها، وسدّ كل الثغرات التي تؤدي الى اختراقه، واصبحت تتعامل مع اسرائيل، ومنذ اطلاق مبادرة السلام العربية، كصديق، بل وحليف يوثق به، فجاء الرد صفعات امنية مخجلة ومتواصلة.
'الموساد' الاسرائيلي اغتال المبحوح بعد عشرة ايام من زيارة الوزير الإسرائيلي المتطرف عوزي لانداو لابوظبي للمشاركة في مؤتمر دولي حول الطاقة المتجددة، على رأس وفد إسرائيلي كبير، واثناء مشاركة لاعبة اسرائيلية في دورة دبي الدولية للتنس.
مما يعني ان هذا الجهاز الامني الارهابي لا يتورع عن تنفيذ جرائمه حتى في الدول الآمنة المسالمة المستعدة للتطبيع مع حكومته. فالرسالة الارهابية المضمون واضحة المعالم، لا حصانة لأحد، معتدلا كان او متطرفا، مطبعا او مقاوما للتطبيع.
* * *
لا نتوقع من امارة دبي ان تكون ندا للموساد الإسرائيلي، في وقت تتحول فيه أراض دول عربية كبرى الى مرتع لعملياته الارهابية، ولكن يظل لزاما علينا ان نعترف لشرطتها ورئيسها الفريق ضاحي خلفان انه تعامل مع جريمة اغتيال المبحوح بشفافية كاملة، وكفاءة غير معهودة في اجهزة الامن العربية الأخرى.
ففي أقل من عشرة ايام استطاعت شرطة دبي كشف هويات جميع المتورطين فيها، ورصد تحركاتهم، الواحد تلو الآخر، منذ الدقيقة الاولى لهبوطهم في المطار، بالصوت والصورة، وقدمت لرجال الاعلام تفاصيل جوازات سفرهم وجنسياتهم معززة بالصور الثابتة والمتحركة، وتقدمت بطلب الى البوليس الدولي لملاحقتهم.
وهذا الانجاز لم نسمع عن مثيله في اي دولة عربية اخرى، صغرت ام كبرت، بل سمعنا عن جرائم وقعت في عواصم عربية نفذتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من الصحف او الإذاعات الإسرائيلية.
الفلسطينيون كانوا في السابق يخوضون معارك شرسة ضد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على الساحات الدولية، علاوة على معاركهم على ارض فلسطين، الآن نحن امام ظاهرة خطيرة وهي تورط فلسطينيين في جرائم ينفذها 'الموساد' ضد ابناء جلدتهم،
وهذا التطور يؤشر الى خطورة المنحدر الذي ينحدر اليه الشعب الفلسطيني وقضيته، منذ بدء 'التنسيق الامني' وشرطة دايتون التي تريد خلق الفلسطيني الجديد، اي الفلسطيني المستسلم للاحتلال الاسرائيلي، الراضخ لفكرة التعاون معه.
وما يجعل الانسان ينزف الما هو تبادل الاتهامات الذي نشاهده حاليا بين طرفي المعادلة الفلسطينية، اي حركتي 'فتح' و'حماس'، حيث يحاول كل طرف الصاق تهمة التواطؤ باغتيال المبحوح بالطرف الآخر، والتبرؤ من الضابطين المعتقلين في دبي.
* * *
اذا كان هناك تواطؤ من بعض ضباط السلطة في جرائم 'الموساد' ضد اشقائهم من نشطاء حركة 'حماس'، والتورط في اغتيال المبحوح في دبي، فهذا امر غير مستغرب، وسمعنا العقيد 'ابو الفتح' احد ابرز مسؤولي الامن في السلطة يقول علنا لنظرائه الإسرائيليين ان 'حماس' هي العدو المشترك.
وأجهزة الأمن الفلسطينية تعتقل بصورة شبه يومية عناصر المقاومة في الضفة الغربية، ونفذت عملية تصفية دموية لمطاردين من حركة 'حماس' في مدينة قلقيلية، وصمتت على اقدام عناصر قوات المستعربين الإسرائيلية على تصفية ثلاثة من فدائيي حركة 'فتح' بدم بارد في مدينة نابلس.
بمعنى آخر اذا كان هناك تواطؤ من بعض عناصر السلطة في جريمة اغتيال الشهيد المبحوح، وان يكن لم يثبت رسمياً بعد، ونتمنى ان نعرف نتائج التحقيقات بالشفافية نفسها مع الفلسطينيين الاثنين اللذين سلمهما الاردن لشرطة دبي، فان حركة 'حماس' متهمة ايضاً بالتقصير الامني، وربما بحدوث اختراق كبير في صفوفها.
فقد كشفت التحقيقات ان خلية 'الموساد' التي نفذت جريمة الاغتيال كانت تعلم بتحركاته وخطة سفره قبل مغادرته دمشق. فقد حجز مقعده على الطائرة قبل يوم واحد من المغادرة، والمتهمون باغتياله كانوا في انتظاره في الفندق الذي اقام فيه، وحجزوا غرفة مقابلة لغرفته، فمن الذي زوّدهم بكل هذه المعلومات، غير شخص موجود داخل الدائرة المصغرة للقيادة في دمشق، او لصيق الصلة بالشهيد المبحوح. ثم لماذا ينزل الشهيد المبحوح في الفندق نفسه خمس مرات متتالية؟
***
لا بد من إجراء مراجعة، والتعامل مع الحقائق بالشفافية نفسها التي تعاطت فيها شرطة دبي ورئيسها مع تفاصيل الجريمة، اما محاولة كنس القمامة تحت السجادة، والادعاء بالملائكية، فهذا أمر مرفوض، سواء كان هذا التصرف من قبل السلطة تجاه فساد بعض كبارها المالي والأخلاقي، او من قبل حركة 'حماس' وأجهزتها. فالمسألة تتعلق بسمعة شعب قدّم آلاف الشهداء والأسرى، وبقضية عادلة ساندها العرب والعالم بأسره.
لا احد معصوم من الاختراقات الأمنية، صغرت دولته او كبرت، ولكن تكرار هذه الاختراقات، والتعامل برعونة ولا مبالاة تجاهها، وعدم الاستفادة من دروس اختراقات سابقة هو الذي يبعث على القلق والإحباط.
أحد الأصدقاء في تنظيم الجهاد الإسلامي روى ان الشخص الذي ابلغ عن تحركات الشهيد فتحي الشقاقي الى 'الموساد' كان من ابرز العاملين في مكتبه، وقد جرى تجنيده قبل أربع سنوات من اجل ان يقدم هذه المعلومة الخطيرة، وجرى اكتشاف امره عندما بالغ بشكل لافت في البكاء اثناء تشييع المرحوم الى مثواه الأخير، الامر الذي لفت نظر الأجهزة الأمنية السورية التي بادرت باعتقاله والتحقيق معه وفضح تعاونه.
لا اعرف مدى صدق هذه الرواية، ولكن مصدرها شخص موثوق فيه، وقال لي ان كل ما طلبه 'الموساد' من هذا العميل على مدى اربع سنوات هو ان يبلغهم ما اذا كان الشهيد سيغادر ليبيا التي كان يزورها (كانت محاصرة جوياً في حينها) عن طريق تونس او السودان او مالطة، يبدو انهم زرعوا خلايا في الدول الثلاث، وبقية القصة معروفة.
كما زرع 'الموساد' عميلاً في مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات أثناء وجوده في مقر القيادة في الفاكهاني في بيروت، وأعدمه الشهيد صلاح خلف (ابو اياد) بنفسه قرب المدينة الرياضية.
اسرائيل باغتيالها المبحوح في قلب مدينة دبي تنقل المعركة الى خارج الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وتنتهك سيادة عدة دول، سواء الإمارات العربية المتحدة التي وقعت الجريمة على أرضها، او ايرلندا وبريطانيا وفرنسا التي استخدمت جوازات سفرها لتنفيذها.
لا نعرف كيف سيكون رد هذه الدول على هذه الاهانات، او رد فعل حركة 'حماس' على هذا التطور الخطير والاستفزازي في الوقت نفسه، ولكن ما نعرفه ان اقدام 'حماس' الى جانب 'حزب الله' (الذي احيا امس ذكرى اغتيال مغنية) على النزول الى ميدان التصفيات والحرب السرية من خلال الاقدام على عمليات خارجية، سيؤدي الى الحاق خسائر كبيرة باسرائيل ومصالحها، خاصة ان التعاطف الدولي معها هذه الايام في أدنى معدلاته.
الملك الراحل حسين بن طلال اتخذ موقفا صلبا عندما حاول 'الموساد' اغتيال خالد مشعل على ارض الأردن، وهدد بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل اذا لم يتم تزويده بالعلاج المضاد للسم، ولذلك نتوقع، ليس من دولة الإمارات فقط، وإنما من مجلس التعاون الخليجي كله اتخاذ موقف جماعي تجاه هذا الاختراق الخطير لسيادة إحدى دوله.
لعل الفضائح الأخيرة وما الحقته من أضرار بالسمعة الفلسطينية، تؤدي الى إحياء الضمائر في أوساط السلطة في رام الله، وتدفع 'حماس' لمرحلة من المراجعة والنقد الذاتي، والعودة الى ثوابت الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى رأسها استحالة السلام مع حكومة إرهابية تتعطش للدماء والاستيطان وإذلال الفلسطينيين والعرب بكل الطرق والوسائل، حيث لا حصانة لأحد.
*رئيس تحرير جريدة القدس العربي جريدة القدس العربي 17/2/2010