لبنان وطن العلماء والمفكرين ، الوطن الذي حقق المدى الأسمى ، وأيقظ الجوهر الكامن في الإنسان إلى حيز أرحب على درب المعرفة والفضيلة ، وبسط تأثيره في الزمان والمكان بنشر الثقافة المتحررة ، وخلق نهجاً خاصاً في حياة الشرق، وأشاع الحياة الفكرية التي وهبت الوطن العربي المعنى العميق لنزعته الثقافية ، وجعل الإنسان العربي حاضراً في الفكر العالمي الغني بالمضمون والمنبثق من أساس الواقع التاريخي للأمة .
أما اليوم فلبنان تلك القطعة من هذا الوطن الكبير يقف على أبواب تغييرات هامة ، ويمر على جسر السقوط أمام مفاتيح الفتنة والدخول إلى الأزمات الحقيقية ، وإنسانه يعيش في قلب الأجواء والخلافات السياسية والطائفية .
الشعب ، الأرض ؛ مجموعة تتزاحم في كابوس الفتنة بالرغم من تحركات الدول الكبرى ، من باريس إلى واشنطن وموسكو ، بدوافع مختلفة وآخرها اجتماع وزراء خارجية العرب الذي انعقد يوم 5/1/2008 ، وتمخض عن مبادرة لحل الأزمة السياسية في لبنان على قاعدة /لا غالب ولا مغلوب/ وعلى أساس تشكيل حكومة وحدة وطنية من /30/ وزيراً ، يكون فيها للأكثرية الحاكمة الآن /14/ وزيراً وللمعارضة /10/ وزراء ، ولرئيس الجمهورية /6/ وزراء ، على أن لا يكون لأي فريق من المعارضة أو الموالاة القدرة على ترجيح أي قرار أو إسقاطه ، وأن يكون لرئيس الجمهورية كفة الترجيح في الحصص الوزارية .
ونصّت المبادرة كذلك على ضرورة التوصل إلى انتخاب قائد الجيش العماد ميشيل سليمان رئيساً للبنان . وقد رحبت قوى الأكثرية والمعارضة بهذا الحل . ولكن هذا الترحيب لا يعكس حقيقة موقف الفريقين ولا حقيقة نياتهما تجاه الحل المنشود لأزمة طالت مدتها وكادت أن تُغرق لبنان كله في أتون الفوضى . ذلك أن النظام الطائفي اللبناني مركّب بطريقة تدعو بشكل دائم إلى وجود طرف خارجي يتولى مسؤولية التوفيق بين الزعامات اللبنانية المختلفة . وكانت فرنسا في زمن الانتداب هي التي تتولى هذه المسؤولية .
لكن ما إن استقل لبنان عام 1946 حتى بدأت المشاكل تنشأ بين زعاماته السياسية الطائفية بسبب غياب الطرف الخارجي الموفّق بينهم . وكانت أول أزمة حدثت في عهد الرئيس بشارة الخوري عام 1952 . وكادت تلك الأزمة أن تؤدي إلى حدوث فوضى في لبنان ، لكن الرئيس استقال وجاء بعده زعيم المعارضة كميل شمعون . وفي عهد الرئيس الجديد ، اشتدت الأزمة وتفاقم الخلاف السياسي إلى أن وقعت أحداث عنف في بعض المدن اللبنانية عام 1958 . وقد انتهت الأزمة على قاعدة /لا غالب ولا مغلوب/ ، فاستقال الرئيس شمعون ، وجاء بعده اللواء فؤاد شهاب .
غير أن انتهاء الأزمة على أساس تلك القاعدة كرّس الخلاف والشقاق بين اللبنانيين ، ودخلوا في هدنة مؤقتة إلى أن وقعت الحرب الأهلية عام 1975 . وقد أدّت هذه الحرب إلى تخريب الدولة اللبنانية وتدميرها بالكامل ، مما استدعى تدخل سوريا التي لعبت فيها دور الوسيط بين الزعامات المختلفة ، فساد الهدوء لبعض الوقت . وفي فبراير عام 2005 ، قتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري ، فحدثت هجمة من بعض اللبنانيين ضد الوجود السوري في لبنان ، وتحرّكت الولاياتالمتحدة والغرب للوقوف إلى جانب هؤلاء .
فاضطرت القيادة السورية إلى سحب الجيش السوري من هناك ، واستغلت الولاياتالمتحدة هذا الفراغ في لبنان ، فدخلت بقوة عن طريق حلفائها من الأكثرية النيابية كي تضع يدها عليه ، مما أدى إلى ظهور معارضة لبنانية بقيادة حزب الله وحركة أمل ضد هذا المخطط الأمريكي .
وانضم إلى هذه المعارضة التيار الوطني الحرّ بقيادة العماد ميشيل عون ، كما انضمت إليها قوى أخرى ، فأصبح للمعارضة حضور بارز في الوسط السياسي اللبناني . ونتج عن ظهور هذه المعارضة تعثّر المشروع الأمريكي لوضع اليد على لبنان . فاضطرت الولاياتالمتحدة إلى دفع إسرائيل لغزو هذا البلد عام 2006 في مسعى منها للقضاء على حزب الله والمقاومة وإنهاء ظاهرة المعارضة . وقد فشل هذا العدوان في قهر المقاومة . ورغم هذا الفشل ، أصرّت الولاياتالمتحدة على إكمال مشروعها في لبنان ، فازداد الشقاق بين الزعامات اللبنانية ، وأصبح لبنان على أبواب حرب أهلية كبرى ثانية .
وقد جاءت المبادرة العربية كوسيلة لإخراج لبنان من محنته ، وحسناً فعل العرب عندما جعلوا سلطة التوفيق بين الزعامات المختلفة في الوزارة بيد الرئيس المقترح وهو العماد ميشيل سليمان . ولعل السؤال هو ، هل ستقبل الولاياتالمتحدة بهذا الحل العربي الذي يسحب منها أداة السيطرة على لبنان ؟. الواقع أن الولاياتالمتحدة غير مرتاحة إلى هذا الحل ، لأنه يُبقي على القوى اللبنانية ، وخاصة حزب الله ، كما هي .
ولذلك فهي ستعمل على دفع حلفائها اللبنانيين لوضع العراقيل أمامه وسوف تنتظر الفرصة المناسبة لتصفية حسابها مع حزب الله . وإزاء هذا الواقع ، فإن الأزمة السياسية في لبنان قد تطول وقد لا تجد طريقها إلى الحل بشكل توافقي كما هو نص المبادرة العربية . وربما سيكون الحسم العسكري من قِبل أحد الفريقين المتصارعين ، هو الحل العتيد الذي ينتظر التطبيق في المستقبل القريب .