بكل دول العالم العربي ودون استثناء ، وحتى بتلك الدول التي تدعي الديمقراطية على الطريقة الغربية ودرب العم ( سام ) لطالما أساء جميعها فهم معنى المعارضة والاعتراض.. فبمجرد ذكر كلمة معارضة ، فان هذا الأمر من شأنه جعل الأجهزة الأمنية برمتها في حالة استنفار قصوا ، فمفهوم( المعارضة) لدى معظم الحكومات العربية وأجهزتها الأمنية والقمعية والتي بيدها مقاليد البلاد والعباد ، تعني الخيانة والتآمر والتمرد والجاسوسية ومحاولة قلب نظام الحكم والانضمام للقاعدة والانخراط في مجموعات إرهابية ، وهلم جر .
كما وان المعارضة ومن يمثلها بنظرهم لا هدف لهم ولا غاية يرجونها سواء إقصاء من هم على رأس السلطة والحل محلهم ، والجز بهم بالمعتقلات وغياهب السجون ، وربما إعدامهم وسحلهم بالشوارع ، والتنكيل بهم وبأسرهم وعائلاتهم ودويهم ومناصريهم ومحبيهم ومؤيديهم ، وهم، أي الحكام والحكومات ، وللأسف الشديد وفي كثير من الأحيان يكونون محقين في تصورهم وتخيلهم هذا ، وذلك لان الطرف الأخر في لعبة أرجوحة السياسة ، ومن يسمون أنفسهم عادة بالمعارضة وفقا لمجريات الأمور والأحداث بالأنظمة السياسية الدولية المتحضرة ، هم أيضا كثيرا ما أساءوا فهم دورهم السياسي والوطني فيما يسمى بلعبة تبادل الأدوار والمواقع والألقاب ، فهم ، أي المعارضة ، غالبا ما يناصبون العداء لخصومهم المفترضين المتواجدين بالسلطة لأتفه الأسباب ، ويكيلون لهم بمناسبة وغير مناسبة التهم والشتائم بمختلف أنواعها وأنماطها ، ويحملونهم مسئولية أي مشكلة أو كارثة يواجهه الشعب والوطن .
ولو كانت تلك الأزمة أو المشكلة ناتجة عن كوارث طبيعية غير متوقعة ولا علاقة للحكومة بها أو بأسبابها أو بنتائجها ، ويشككون في كل عمل أو إنجاز تقوم به الفئة الحاكمة ، ويشنون عليهم الحروب الإعلامية ، والدعايات المغرضة ، ويحيكون الدسائس والمؤامرات ضدهم، ليس حبا في الوطن طبعا ، أو من اجل الشعب المسحوق(( الغلبان )) كما يزعمون ويدعون ، وإنما من اجل أن يصلوا هم للسلطة والبساط الأحمر الخلاب الذي يخطف لونه الأبصار والعقول ، ولكي يتحكموا في مصادر القرار والرزق والثروات، وكليهما على هذه الحالة ، وبهذا الصراع المضحك المبكي ، أشبه ما يكون بذاك الصراع الكرتوني المسمى (( الرسوم المتحركة)) لعبة القط والفأر (( توم وجيري )) ..
إلا أن المحزن في هذا الأمر ، هو إن الشعوب المنكوبة المغلوبة على أمرها ، هي فقط من يدفع دائما ضريبة هذا الصراع الهزلي ، والشواهد على هذا الصراع الأبدي كثيرة جدا بوطننا العربي ، وقد لا يحتمل هذا المقال سردها جميعا ، إلا إننا سنكتفي بأخذ بعض الأمثلة البارزة على الساحة السياسية العربية اليوم ، ولعل ابرز هذه الأمثلة هو ما حدث ويحدث بالعراق المحتل ، هذا المثل الحي ، والذي أصبح مدرسة بل أكاديمية في فن لعبة السياسة القذرة ، فانظروا إلى الفئة التي تدعي بأنها حاكمة اليوم في العراق ، هذه الفئة كانت بالأمس القريب فقط في صف المعارضة ، تمارس أبشع وأحقر وأنذل أصناف التهكم والتهجم والتآمر ضد الحكومة الشرعية في العراق ، حتى وصل بها الأمر إلى استجلاب أعتى قوة بالتاريخ المعاصر ، وألذ أعداء الشعب العراقي والأمة العربية ، بحجج واهية ومعلومات كاذبة ، ليس من اجل الديمقراطية والقضاء على الدكتاتورية كما يحلوا لهم ولمطبليهم التشدق به ، ولكن من اجل أن يكونوا هم على راس السلطة ، يمارسون الدكتاتورية ضد الشعب العراقي بالشكل الذي يروق لهم ، بل أن الدكتاتورية وصلت في عهدهم اللاميمون إلى حد منع الناس من الترحم على الرئيس صدام حسين أو التحدث عن مآثره وإيجابياته ، رغم انه أصبح الآن بجوار ربه ، ولا داعي مطلقا للتحدث عن كيف كان العراق والشعب العراقي قبل الغزو وكيف أصبحا ؟!!
إذ انه من السهل جدا أن يتمكن أي عراقي شريف صادق مع نفسه وربه سواء بالداخل أو بالخارج ، من معرفة الفارق بينهما ... ثم يليه ثاني الأمثلة ، والمتمثل بدولة فلسطينالمحتلة أيضا، وهو مثلا قديما متجدد ، وأخر شواهده وضحاياه الحجيج العالقين بين المعابر ، فلو أن هناك فعلا سلطة فلسطينية مستقلة ، ومرضيا عنها ومرغوبا فيها من قبل الجميع ، لما حدث للحجاج الفلسطينيين ما حدث ، ولكن مرة أخرى تكون للعبة السياسة اليد الخفية وراء كل ما يحدث ، فكل من السلطة الفلسطينية والمعارضة يحاولان استثمار هذه الأزمة الإنسانية لمصلحته ، ودعم موقفه السياسي، وانظروا كم من الممتلكات والمنشآت دمرت ، وكم من الأرواح زهقت ليس في سبيل الله والوطن والقدس والدين ، إنما مناصرة لهذا الحزب أو ذالك أو لهذه الحركة أو تلك ، وبينهما تاه الشعب ، وضاع الوطن والقدس والقضية ، وهنا لطالما راودني سؤال أره محير من وجهة نظري ، هل الشعب الفلسطيني قد نال كل حقوقه ، ولم يبقى له إلا الديمقراطية ولعبة الانتخابات والتصارع على السلطة ؟!!!
رغم أن كافة شعوب العالم التي تحررت من الاحتلال ، لم تتحرر بواسطة الديمقراطية والانتخابات المزورة ، ولكنها تحررت بفضل توحيد جهودها وصفوفها تحت رأية واحدة ، وقيادة واحدة لا هدف لها إلا النصر والتحرير ، فكان لها ذلك ، ويجب ألا ننسى قول الله سبحانه وتعالى في هذا الصدد وهو اصدق القائلين (( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) صدق الله العظيم .. فالله عز وجل لم يقل لنا واعدوا لهم ما استطعتم من ديمقراطية وانتخابات .. ثم (( لبنان ))وما أدراك ما لبنان ، هذا البلد المسكين الغلبان ، الذي ما دمرته إلا الديمقراطية والتعددية الحزبية والطائفية ، فها هو اليوم بلدا دون سائر البلدان من غير رئيس ، وعلى شفاه حفرة من نار ، وله رصيدا من الحرب الأهلية ، والاغتيالات ، ودمار البنية التحتية ، كل هذا بسبب الصراع والتطاحن على السلطة ، فهل يستحق لبنان الجميل شعبا ووطننا كل هذا البلاء والعناء والشقاء ، بسبب عناد لا مبرر له بين معارضة وسلطة ؟!!!
وثم الحبيبة (( سوريا )) هذا البلد الآمن الأمين ، بلد الخلافة والثقافة والحضارة ، بلد الصمود والتصدي ، الذي لا يمكن للمرء إلا أن يعشقه ويحبه ، ويخلص له ويفتديه ، لا أن يتكالب عليه ، ويكيد له المكائد ، ويفتح في وجهه نيران الشائعات والتحريض ، كلما سنحت له الفرصة في ذلك ، مستغلا كل أزمة دولية تتعرض لها سوريا شعبا وحكومة ، بحجة انه من معارضي الحزب المستبد الدكتاتوري الحاكم ، وانه المنقذ والمخلّص ، ومن سيجلب للبلد الديمقراطية والهناء والسعادة ، وهذا طبعا لن يكون إلا بالخنوع والتطبيع والاستسلام ... ثم ربما أخيرا (( السودان )) هذا البلد العربي القارة ، سلة خبز العالم ، الغني بكافة الثروات الطبيعية ، الذي يسكنه شعبا من اعرق الشعوب العربية ، يعاني الآمرين ، مّر الحروب والنزعات القبلية والحزبية من جهة ، ومّر الفقر والمرض والآفات من جهة أخرى ، وكل هذا العز لا سبب له إلا صراع الأحزاب والأوغاد على السلطة...
وانظروا كم من الأموال بددت، وكم من الزمن والوقت الثمين هدر ، وكم من الطاقات والقدرات والإمكانيات ضاعت وتلاشت في خضم هذه اللعبة السياسية القذرة، دون أن تستفيد الشعوب والأوطان منها ... وبالختام وجب التنويه على أن المعارضة لدى الشعوب والدول المتقدمة المتحضرة ، دورها ليس مقتصرا فقط على اصطياد هفوات وأخطاء من هم على رأس السلطة ، ومحاربتهم والنيل منهم والافتراء عليهم والتشهير بهم عبر كافة وسائل الأعلام المتاحة ، وإنما لها دورا وطني وإنساني نبيل ، وكثيرا ما نشاهد ونسمع باتفاق الحكومة والمعارضة على إنجاح برنامجا أو عمل ما ، يصب بالنهاية في مصلحة الشعب والوطن والأمة ، ونحن ومن المؤسف له حتى بهذه اللعبة المسمى السياسة والديمقراطية ، لم نأخذ عن الغرب إلا القشور .. ويا ليتها كانت قشورا جيدة .