لماذا كل هذا العداء السافر من الانعزاليين لمصر والعرب؟
* محمد عبد الحكم دياب
محمد عبد الحكم دياب الفتنة الطائفية في مصر تتكرر وتتسع، والمعالجات الخاطئة والمغرضة تزيدها اشتعالا وتفاقما. وهذا ما كان ليحدث لو لم تكن هناك ثقافة انعزالية وطائفية تغذيها وتنتشر انتشار النار في الهشيم. بشكل يغطي على الأسباب الحقيقية للمأزق المصري الراهن. فتخرجه من سياقه بعيدا عن طرق الوقاية والعلاج والحل، وبذلك تتعمق موجبات الصراع والتقسيم والإضعاف. لتؤصل للفتنة وتبررها وتزكيها.وتستقوي بالقوى والمؤسسات الغربية.. الاستعمارية والصهيونية.. تثبيتا لمكانة ونفوذ القائمين على شؤونها.
هذه الثقافة تنمو وتنتشر بتأثير عاملين مهمين. العامل الأول هو الغرق في قاع التبعية الذي ليس له قرار، وطال كل مؤسسات الحكم والتوجيه والاقتصاد والمال. أما العامل الثاني فهو غياب الدولة وعجز الحكم مما أدخل المواطن في دهاليز التيه وسراديب التعقيدات ودوامة الفساد. ومن هول ما يحدث بدا المصريون وكأنهم لا يعرفون لأنفسهم أصلا ولا هوية.
وهذا يتناقض مع ادعاءات حضارة السبعة آلاف عام. فالعمق الحضاري وما ينتج عنه من ثراء ثقافي وعلمي وفكري يعزز المكانة ويزيد الثقة بالنفس.
ووظيفة هذا التناقض هي المصادرة على كل التاريخ، وكل التراث، وكل الحضارة، ويهدف إلى إلغاء الهوية واقتلاع الجذور والأصول. بعدها يذبح الوطن من الوريد إلى الوريد. ومن يفعل بنفسه وهويته وثقافته وتاريخه ما يفعله الانعزاليون بمصر يهدم كامل البناء على رؤوس كل من بداخله. ايديولوجيتهم قطعت أوصال التاريخ، وفصلت حلقاته عن بعضها، وجعلت من العقائد أفكارا متصادمة، وبنت ثقافتها على عدم العيش مع الغير أو التعايش مع حقائق الحياة والعصر. وعلى مصر الانعزالية التي يريدونها أن تكون غريبة عن نفسها، وفي قطيعة عن أمتها وعالمها.
والتكوين الاجتماعي والثقافي والحضاري للإنسان في أي بلد أو على أي أرض ما هو إلا تراكمات تكونت وتشكلت عبر التجارب والمنجزات الحضارية والدروس والخبرات التاريخية المتتالية. وإذا كان فصل أعضاء الجسم عن بعضها يحول الإنسان إلى أشلاء فإن تقطيع المجتمع، وتمزيق النسيج الوطني والقومي، وانتزاع الهوية، يصنع بالوطن نفس الشيء. وفتنة الثقافة أخطر من أي فتنة، لأنها تضرب القيم والثوابت في مقتل، وإذا ما سادت تتفكك الأمم والشعوب.
وفتنة الثقافة تحيط بنا من كل جانب. فيما يذاع ويبث ويكتب عن علاقة المسلمين والمسيحيين، وأغلبه معلن على المنابر الدينية والسياسية والإعلامية وبعضها مستقل. وإذا كنا قد تناولنا في السابق الإسلام السياسي بالبحث والتحليل والنقد، الذي وصل إلى حد رفض تصرفات جماعات عدة محسوبة عليه. إذا ما كانت سبيلا للتطرف والغلو وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح والتفرقة بين المواطنين.
ومن يفعل ذلك يشعر بالتقصير إذا ما أغمض العين واستثنى تيارا غالبا في المسيحية السياسية بصيغتها المصرية، وهذا التيار مثله مثل نظيره في الإسلام السياسي له مؤيدون من المسلمين والمسيحيين، وقطع شوطا في ترسيخ نهج الانقطاع أو بالأصح القطيعة بين حقب الحضارة ومراحل التاريخ. ويتولى توفير كل سبل الصدام بين مكونات المجتمع وعناصره.
اعتمادا على ادعاءات شبيهة بتلك التي قامت عليها اليهودية السياسية. ممثلة في الحركة الصهيونية وقدرتها على تصنيع واختراع الأساطير التي تدمج الدين بالعرق أو السلالة. فخرجت منها الدعوة إلى ما يسمى الوطن القومي لليهود. كمضرب من مضارب القبيلة اليهودية. فعادوا بالدين إلى سيرته الأولى.. حدوده القبيلة أو القوم. يوم أن كان محصورا داخل جماعة ذات أصل واحد وسلالة متصلة. واليهودية السياسية في صيغتها الصهيونية أعادت اليهودية وقصرت احتكارها على قبيلة بني إسرائيل وفروعها.
ومع يقيني أن هذا لا يستقيم مع المسيحية ولا الإسلام. لطبيعة الدينين العابرة للقبائل والشعوب والأمم، وهذه إشكالية الإسلام السياسي حين استجابت بعض جماعاته لدواعي العزلة، وحصروا أنفسهم في نطاق قبلي. دون التفاعل مع الحياة والعصر.
والمشكلة في المسيحية السياسية في ثوبها الانعزالي أنها سيطرت من سنوات على التوجهات الرسمية للكنيسة المصرية.. شوهت تراثها وتاريخها الوطني. والتيار الانعزالي داخل الكنيسة وخارجها يختزل الوطن الجامع في كيان أشبه بالغيتو أو القبيلة المغلقة، على غرار اليهودية السياسية المصهينة وخطى المسيحية السياسية في الغرب المتماهية في نظيرتها الصهيونية.
وكان ذلك واضحا أثناء إدارات بوش في واشنطن وبلير في لندن، وما زال ذلك مستمرا مع ميركل في برلين. والأمر هنا يحتاج إلى وقفه للفهم والتفاهم. في مناخ الإرهاب الفكري والنفسي والبدني الذي تمارسه الانعزالية المصرية على أوسع نطاق. وعن طريقه أعادت انتاج القبطية كأيديولوجية معدلة. تهيئ لها كل الظروف لتحل محل الشخصية الوطنية والهوية القومية، وهذا الجهد يخرج هذه الأيديولوجية من الدائرة المصرية بمكوناتها.
وقد يبدو هذا الكلام ملغزا، وأمر حله سهل إذا ما تم التعرف على مدلولات القبطية الراهنة، فهي ليست دينا أو هوية. الدين المسيحي نزل على حدود مصر وتخومها.
في منطقة مسكونة بالعرب من قديم الزمن. وكان من الطبيعي أن تظهر فيها ممالك عربية اعتنقت المسيحية قبل ظهور الإسلام. الغساسنة في الشام والمناذرة في اليمن والجزيرة العربية. وربط القبطية بالمسيحية فيه تعسف بالغ. خاصة أنها بدأت لهجة من لهجات اليونانيين أثناء احتلالهم لمصر، وتحولت إلى لغة أضافت إلى حروف الأبجدية اليونانية الخمسة والعشرين سبعة حروف أخرى توائمها مع موروث الأبجدية المصرية القديمة. مثل حروف العين والضاد والطاء والخاء والغين، ولأن اللغة هي أداة المعرفة والعلوم والآداب لعبت دورها في صياغة الثقافة القبطية. وهنا يظهر الفارق بين مُخْرَجات الثقافة القبطية اليونانية ونتاج المسيحية العربية.
سواء في الروح والشعور بالانتماء والدور. فالأولى لم تتخل عن أصولها الغريبة، والثانية حافظت على اللغة العربية وتراثها وثقافتها، بما فيها الثقافة الإسلامية. حتى أن أسماء الأشخاص في المسيحية العربية هي غسان ومروان وإلياس وعطا الله. والأسماء القبطية هي اسكندر وجرجيوس وكيرلس وأرمانيوس ومكاريوس وهكذا.
ومصر لم تكن مصرية.. أي لها شخصيتها واستقلالها.. منذ انتهاء حكم الأسر الفرعونية على يد الآشوريين ثم الفرس، الذين هزموا أمام زحف الإسكندر الأكبر نحو آسيا الصغرى وشبه القارة الهندية. وبعد أن استدار غربا نحو مصر وشمال افريقيا توج نفسه ملكا على طريقة الفراعنة واعتنق دينهم وحج إلى معبدهم في واحة سيوة وأسس الإسكندرية، وورث اليونانيون مصر ضمن تقسيم ممتلكات الاسكندر على قادته ومساعديه. وكانت من نصيب البطالمة. وهم سلالة بطليموس قائده المقرب والمفضل. و استمر حكمهم ثلاثة قرون تداول على حكمها 15 بطلميا، ولما انتهوا حكمها الرومان .
وبسطت روما سيطرتها بعد أن قضت على كليوباترا آخر ملوك البطالمة، ويمكن للإنسان أن يشم رائحة الانحياز للحقبة اليونانية. حيث ُوصفت بفترة استقلال مصر. مع أن حكامها وملوكها ونخبها لم يكونوا مصريين .
ومع الرومان انتقلت ملكية البلاد من اليونانيين إلى الرومان، الذين احتفظوا بالإسكندرية، بمكتبتها وجامعتها، كثاني أهم المدن بعد روما . واعتنق رعايا الرومان في مصر المسيحية بنسقها اليوناني في منتصف القرن الميلادي الأول .
بفضل القديس مرقس وإقامته في الأسكندرية وتأسيسه لأول كنيسة في مصر وافريقيا. وقد عانى المسيحيون المحسوبون على الثقافة اليونانية من اضطهاد الرومان لهم خصوصا في فترة الإمبراطور دقلديانوس الذي يؤرخ بعام توليه عرش الامبراطورية بداية للتقويم السنوي لدى المسيحيين المصريين الأرثوذكس. وقد زاد بناء الكنائس و الأديرة في هذه الحقبة وانتشر التصوير للشخصيات والأماكن على نمط ما كان سائدا في أثينا.
وقد تعارف مدونو المرحلة البطلمية اليونانية على وصف المصريين بالقبط. تحويرا لمسمى إيجيبتوس اليوناني لمصر كمستعمرة تحكم وتدار من قبل اليونانيين واليهود، وكان عدد سكانها يبلغ سبعة ملايين نسمة. منهم مليون يهودي وضعفهم تقريبا من اليونانيين، وهذا هو مصدر شعور الإنعزاليين.. مسلمين ومسيحيين.. بالغربة بين باقي المواطنين، الذين انصهروا وتزاوجوا واندمجوا فتمصروا وتعربوا.
ويبدو أن هذا كان سببا في اختطاف الانعزاليين للتاريخ المصري القديم واحتكاره لحسابهم. وعلى الرغم من هذه التعقيدات يجب أن توضع المرحلة القبطية (اليونانية) في سياقها التاريخي الصحيح، فهي حقبة من حقب التاريخ وحلقة من حلقاته، وجزء من التراث الممتد في مصر والمنطقة عبر آلاف السنين. والذين يحنون لثقافتهم اليونانية لا ضير عليهم إذا ما اندمجوا وأقروا بمصريتهم. فمصر تتسع للجميع.
ولن ينفعهم التغريد خارج السرب، وسوف يتأكد لهم أن الولاء الوطني يتعزز ويكتمل بالانتماء العربي. وبدونه ما كانت مصر قد استأنفت دورها الحضاري، ولا استعادت تأثيرها ومكانتها وألقها، ولا يجب أن يغيب عن ذهن القبط الرافضين لمصريتهم وعروبتهم أن ساكن بيت الزجاج عليه ألا يقذف الآخرين بالحجارة.
فيكفوا عن ترويج المقولة المغرضة التي ترى أكثر من سبعين مليون مصري، هم عدد المسلمين والعرب غزاة ومحتلين بكل ما في هذه الاوصاف من عداء وفتنة. ويبدو أن النشاط الانعزالي خارج مصر، وهو يجد الرعاية من دول ومنظمات غربية وصهيونية أغرى البعض بالدعوة لطرد المصريين من بلدهم.
وكان الأولى تلبية دعوات الاندماج، فيكونون جزءا من كتلة وطنية فاعلة ومؤثرة تخفف من وطأة عصر الاستبداد والفساد والتبعية الذي يوزع ظلمه واضطهاده وملاحقاته بالعدل على كل المصريين، مسلمين ومسيحيين.
والمهم هو درء الفتنة. ولا يتم ذلك بالرد على المنطق الانعزالي بمثله، أو باستنطاق التاريخ بما ليس فيه، أو بالخلط المتعمد بين القبطية والمسيحية ، أو القبول بالقبطية كهوية بديلة للشخصية المصرية والهوية العربية. وإذا قبل البعض العودة إلى أصل ثقافته اليونانية فليس أمام الأكثرية إلا أن تعزز انتماءها الوطني والقومي، وتزداد تماسكا وتضامنا ووحدة.
في نفس الوقت علينا أن نتطلع إلى إخوتنا المسيحيين من رموز العمل الوطني والقومي. من أمثال العالم الجليل رشدي سعيد، أطال الله عمره، والسياسي الوطني جمال أسعد عبد الملاك والمثقف الديمقراطي رفيق حبيب، والمناضل البارز جورج اسحق، وعَلَم حركة الكرامة العربية أمين اسكندر مع غيرهم. من مختلف التيارات الوطنية والقومية ليكونوا في صدارة المشهد الشعبي الجامع المتصدي للثقافة الانعزالية ورموزها على كل المستويات.. وللحديث بقية.
*كاتب من مصر يقيم في لندن جريدة القدس العربي 1/8/2009