إلى مسيحي أردني غاضب : البابا لا يمثّل المسيحية العربية .. فلا تخجل!
* ناهض حتّر
اتصل بي عدد من الشباب المسيحي من أبناء العشائر الأردنية ، وطلبوا إلي المبادرة لتنظيم احتجاج ما في مواجهة تصريحات البابا المسيّسة حتى النخاع والمنحازة إلى العدو الإسرائيلي.
اعتذرتُ للأول والثاني والثالث والرابع .. فأنا لا كره أن أتصرف سياسيا أو أكتب كلمة " مسيحي".. إنني، من قبل ومن بعد، أردني عربي أولا وأخيرا. ثم ، تحت الضغط، لم يعد بإمكاني سوى توضيح ما يلي :
أولا، أنني أتفهّم غضب الشباب النشامى . لكن أي احتجاج جماعي ضد البابا سوف يقودنا إلى الاصطدام مع رعيل من المؤمنين كبار السن الذين يرون " بركة البابا " ولا يتعاطون مع زيارته من منظور سياسي.
وثانيا، أنني لا أريد للأردنيين، مسيحيين ومسلمين ، أن يتصرفوا بما يشبه تصرفات المتعصبين اليهود الصهاينة . فنحن متحضرون ، وبلدنا متحضر. ونحن لا نبتز، مثل الإسرائيليين، ضيفنا خصوصا إذا كان له مقام معنوي والإسرائيليون قادرون على الابتزاز لأن الأرض ليست لهم ، ولأنهم ، في الأخير، مجموعات متعصبة مغتصبة ،من دون قيم حضارية.
وثالثا ، لأنني أكره أن يختلط اعتراضنا على البابا سياسيا بتعصبات أخرى ضد المسيحية وضد اليهودية. فنحن ، في الأول والأخير، وطنيون أردنيون علمانيون لا ننظر إلى الحياة والمستقبل إلا من منظار العروبة التقدمية ، ونحن نزدري مفهوم " التعايش" الغبي ، لأن التعايش يكون بين الخصوم أو المختلفين . ونحن شعب واحد موحد تربطه رابطة الدم والعشيرة والثقافة والأرض . ولا يمكننا أن نتصرف كمسيحيين . على الأقل بالنسبة لي . أنا علماني 100 بالمئة واحرّض الشباب ، مسيحيين ومسلمين، على العلمانية.
أريد التأكيد، هنا، على أنني لست معاديا لليهودية كدين ولا لليهود كبشر. اليهودية هي جزء من تراث منطقتنا الروحي ، ولنا بين اليهود اشقاء عرب علينا أن نستعيدهم إلى أمتهم وعروبتهم ولغتهم وأهلهم وبغدادهم وقاهرتهم ودمشقهم ويمنهم ومغربهم . هؤلاء منا ونحن منهم ، كالمسلمين والمسيحيين، تظللنا راية العروبة. وقد اختطفت الصهيونية هذا القسم من أمتنا ، وساعدنا نحن الصهيونية على ذلك الاختطاف بما فعله الطائفيون المتعصبون السفهاء بهم ، فاقتتل الأخوة الضحايا لحساب الإمبريالية والصهيونية.
لكننا نرفض ، بالطبع، أن يعلن البابا في عمان العروبة أنه جاء إلى الأراضي المقدسة لتوثيق الصلة " مع الشعب اليهودي" !! ولو قال مع اليهود والمسلمين نفهم ! لكن ما سماه البابا " الشعب اليهودي" ليس موجودا إلا بالصهيونية وبالعنصرية وبالكيان الإسرائيلي . وتوثيق الصلة مع هذا الكيان الذي قام على اغتصاب أرض عربية وتشريد سكانها ، مسلمين ومسيحيين ، وما يزال يحتل أرضا عربية فلسطينية ويهوّد القدس ، هي ، بالتأكيد، صلة سياسية مئة بالمئة . ولا علاقة لها بالدين ولا بالتسامح الديني. وهي صلة لحساب الصهيونية والإمبريالية.. وعلى حساب فلسطين والأردن والعرب ، مسيحيين ومسلمين.
لنكن صريحين .. إنها زيارة سياسية الهدف منها الجثوّعند أقدام الصهيونية. وأنها لمأساة أن يلحّ البابا على تذكّر محرقة عمرها حوالي سبعة عقود ولا يتذكّر محرقة حدثت منذ بضعة شهور في قطاع غزة الذي ما يزال محاصرا وجائعا ومريضا وخائفا . ولنصرة مثل أبناء قطاع غزة جاء المسيح .. ولم يجيء لنصرة كيان استعماري يمتلك جيشا جبارا معربدا و200 رأس نووي !
وكنا حتى آخر لحظة ، نأمل ومن دون ابتزاز أن يعلن البابا في مسجد الملك الحسين بن طلال ، اعتذاره عن الإساءة للنبي العربي (ص) وهو اعتذار يطلبه المسلمون بالطبع ، لكن يطلبه المسيحيون العرب أيضا. فمحمد بن عبد الله (ص) هو رمزنا القومي الأول ، ومؤسس الأمة العربية، بمسلميها ومسيحييها ويهودها .
نحن لسنا مسؤولين عن محرقة اليهود حدثت أم لم تحدث بل النازية الألمانية واللاسامية الأوروبية التي عملت على تصدير المشكلة اليهودية إلينا . لكن اليهود العرب عاشوا في أحضان أمتهم قرونا طويلة ، وساهموا في حضارتها كأشقائهم المسلمين والمسيحيين. ونحن نريد سلاما حقيقيا في أرض المسيح ، في فلسطين موحدة متحررة من الصهيونية يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في إخاء ومساواة. أما إسرائيل فهي صانعة محارق ستظل نيرانها متقدة كالجحيم.
مسيحيا ، أعني من الناحية العقدية، فالمسيحية المشرقية القديمة لها وشائج روحية وفكرية أصيلة مع الإسلام .. لكن المسيحية، بكل أبعادها الروحية، تتناقض جوهريا مع العقيدة اليهودية في ثلاث نقاط أساسية هي الآتية:
أولا إن المسيحية كالإسلام دين أممي ولا يرتبط " بشعب " معين يقال إنه " شعب الله المختار". فالدين لا يصنع شعبا إلا في نظرة عنصرية. واليهودية ما قبل الصهيونية ، كانت تفهم ب " الشعب" شيئا كالطائفة بالمعنى الديني لا القومي
ثانيا، أن المسيحية ظلت تراوح عقودا ولا تنطلق ولا تراكم المؤمنين ، لأن المسيحيين الأوائل بشّروا بين اليهود الذين أغرقوا دين المحبة والإنسانية والوجدان الصافي ، بالسجالات الفقهية ، حتى جاء بولص الرسول وأطلق الدعوة من القفص اليهودي ووضع حدا نهائيا للتبشير بين اليهود أو السجال على أرضية اليهودية.
وبالمصطلحات الحديثة ، أحدث بولص الرسول قطيعة معرفية وسسيوثقافية مع اليهودية، لا تقوم على عنصرية معادية لليهود .. بل على تحديد الإيمان الجديد الذي جاء به المسيح ، إيمان بإله المحبة لا بيهوه رب الجنود. ولذلك لا علاقة البتة بين التوراة وبين الأناجيل . ونحن نعتقد ، جازمين ، أن الحج إلى جبل نيبو ليس مسيحيا أبدا. فهو يستند إلى رواية من العهد القديم حوّرتها الصهيونية سياسيا لتاكيد حقوق " قومية " مدّعاة في فلسطين العربية . ولو كان الأمر بيدي لأزلت هذا النصب الصهيوني المصطنع من جبل نيبو ، عصا موسى !
ثالثا ، هناك اختلاف نوعي في هيكلية الدين المسيحي عن اليهودي في أن الأول ، عكس الثاني، لا يتوفر على شريعة . ولا يحدد للمؤمنين كيف يتزوجون أو يرثون أو يأكلون أو يشربون ( هذا ما ابتدعته الكنيسة لاحقا ) ولا يتعاطى مع الشرع كليا ، ف"ما لله لله وما لقيصر لقيصر" . المسيحية إيمان قلبي يقوم على المحبة والفداء . الفداء معناه الالتزام بالعمل من أجل المجتمع ، معناه الالتزام بأولوية المجتمع على الفرد . وبهذا المعنى بالذات ، فإن الإلتزام الروحي للشباب المسيحي الأردني هو اولا نحو مجتمعهم وقضاياه ، يكونون مسيحيين بقدر ذلك الإلتزام .. وهو فوق التزامهم بالمرجعيات الدينية ، خصوصا إذا كانت هذه مسيّسة حتى النخاع حينما يتصل الأمر بخدمة مصالح الإمبريالية في دعم إسرائيل ، وتدعي الحياد الديني عندما يتصل الأمر بحرية فلسطين وحقوق شعبها الجريح.
أصدقائي الأعزاء من الشباب المسيحي الأردني العربي .. لا تخجلوا ! فالبابا يمثّل مسيحيّة الفاتيكان لا مسيحيّة الكرك ومادبا والسلط وعجلون ، أعني مسيحية العشائر الأردنية العربية الحرة، بما تترسخ فيها من روح المحبة والفداء .. للأردن الوطن والشعب والعروبة.