أمريكا.. دولة أم عقيدة؟ عاطف الغمري هل أمريكا دولة؟ في عمق الفكر السياسي الأمريكي، اقتناع بأن أمريكا أكبر من أن يطلق عليها وصف الدولة وحسب لأنها فكرة. وللمؤرخ الأمريكي هوفستاد مقولة مشابهة تقول: إن الأمريكيين لا يبحثون لبلادهم عن عقيدة. لأنهم مقتنعون بأن أمريكا هي العقيدة.
والفكرة والعقيدة تقومان على معنى مسؤوليتها عن نقل قيمها وأفكارها ونظمها ومفاهيمها إلى العالم، باعتبار ذلك رسالتها للإنسانية، ولنشر الخير، من وجهة نظرها. لكنّ هناك تحولا هادئا كان قد بدأ حول هذا المفهوم، يتساءل الذين يتابعونه هل مازالت الظروف في الداخل والخارج تسمح باستمراريته ؟
المعركة الانتخابية الدائرة الآن بين باراك أوباما ذي الأصول الإفريقية، وماكين المنتمي إلى الجناح المحافظ التقليدي، جاءت في وقت هذا التحول، وهو يمثل التحدي الأكبر لكليهما لو أصبح رئيسا. وهو تحول في نظرة أمريكا لنفسها، مقترن بتغير في نظرة العالم لها، والذي يعكسه انتشار الظاهرة التي رصدتها مراكز استطلاع الرأي في أوروبا، وفي الولاياتالمتحدة وأبرزها مركز بيوPeue الشهير، وهي ظاهرة العداء لأمريكا Anti Americanism.
ويضيف إلى ذلك كاتب أمريكي مرموق هو بول كروجان قوله: لو أن أوباما استطاع أن يكسب انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل، ودخل البيت الأبيض، لكان في إمكاننا أن نقول إن التحول قد حدث في أمريكا.
وقيل أيضاً إن المعركة الانتخابية منذ اللحظة التي حقق فيها أوباما انتصاره التاريخي على هيلاري، تدور حاليا بين أمريكتين: أمريكا المتمسكة بأن حاضرها ومستقبلها لن ينسلخ عن ماضيها، وأمريكا الأخرى التي تبحث عن رؤية لمستقبل مختلف، في عالم، تعاد صياغته، ليس بيد أمريكا هذه المرة.
وربما كان ما عكس التحول في معنى أمريكا الفكرة، استطلاع للرأي أجراه أخيراً معهد جالوب، نتيجته: أن الأمريكيين تعبوا من هوية وطنية صارت تغلب عليها مفاهيم الغطرسة في الخارج، وأساليب تخويف المواطن في الداخل.
لقد كانت أمريكا الفكرة، محل جدل بين مدرستين للسياسة الخارجية، إحداهما تعرف بالمدرسة الواقعية، ومن رموزها المعروفين الرئيس بوش الأب، وجيمس بيكر، وبرنت سكوكرفت، وكيسنجر، وكلينتون، وأولبرايت.
وهي تؤمن بالسيادة الأمريكية في العالم، لكنها السيادة النسبية، وبمشاركة آخرين، وبأن يكون نشر القيم والمبادئ الأمريكية عن طريق الإغراء، ووسائل الجذب، وأدوات القوى الناعمة التقليدية، كأفلام هوليوود وإبهار الحلم الأمريكي، والموسيقا، والأدب، والإعلام.
والمدرسة الثانية وتعرف بالمدرسة المثالية، وينتمي إليها المحافظون الجدد، وهم فريق ضمن فرق أخرى، وتؤمن بالسيادة المطلقة ومن دون شركاء، وبالهيمنة العالمية، ونشر القيم الأمريكية بين الشعوب الأخرى، ولو بالقوة العسكرية.
وكانت حرب العراق بمثابة المختبر أو المعمل، الذي اختير ميدانا لتجربة تطبيق الفكرة، فإذا نجحت عسكريا، يمكن نقلها إلى باقي مناطق العالم الإقليمية. لكن الفكرة جرى لها في العراق ما يشبه الزجاج الذي تكسر. وحسب التقديرات المنشورة في أمريكا فإن أحدا لم يحمل معول الهدم للفكرة، مثلما فعل جورج بوش، حتى ولو جاء ذلك نتيجة سوء التقدير.
ومن الأصل فلم تكن فكرة النموذج الأمريكي مطروحة ليختاره من يختار، لأن صياغة شكل العالم في القرن الأمريكي ونقل النموذج إليه، هو مسؤولية أمريكا تجاه الإنسانية. والفكرة نفسها كانت هي جوهر الصراع بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، فكلاهما كان يعتبر أن صراعه ضد الآخر، هو رسالة من أجل الإنسانية.
وليس خافياً أن الخبراء في أمريكا مشغولون في السنوات الأخيرة باحتمالات التحول في وضع أمريكا في العالم، وإعادة صياغة النظام الدولي، بمشاركة وبقوة تأثير آخرين، وذلك على ضوء بروز الصين، ثم الهند وقوى أخرى، لن يقتصر دورها على اكتسابها قوة اقتصادية، ومكانة سياسية، وإنما أيضا على بعث حضاري، سيؤدي إلى تعددية مراكز الإلهام الثقافي والحضاري، بعد أن ظلت أمريكا تحتكر وحدها هذا المركز.
وكانت أمريكا قد شهدت في أواخر التسعينات، مناظرات حول نظرية البروفيسور هنتنجتون “صدام الحضارات"، نشرت في المجلة الفصلية الفكرية (The national interest) أرجعت جانبا مهما من الأسباب التي تقف وراء هذه النظرية إلى خوف قوى أمريكية ذات ثقل ونفوذ، من صحوة الحضارات القديمة خاصة في آسيا، وتحولها إلى مراكز جذب ثقافي وحضاري لشعوبها ولغيرهم، مما يهدد مركز الإلهام الحضاري وعاصمته أمريكا.
فهل لا تزال أمريكا هي الفكرة.. وهي العقيدة؟
هناك من لا يزالون يتمسكون بهذا الفهم. ولن يتخلوا عنه. وهناك أيضاً من مدوا أبصارهم إلى الأفق الواسع، واستوعبوا مايجري هناك على البعد، وبدأوا ينشغلون بصورة أمريكا في المستقبل.. مستقبل العالم الذي لا تنفرد أمريكا بصياغته وتشكيله وإنما الذي يلعب فيه آخرون دورهم.. وهؤلاء الآخرون لهم قيم وأفكار ومبادئ وعقائد وتقاليد ثقافية وحضارية.
وهكذا سيكون العالم الجديد. لقد ساعد على ترسيخ هذه الفكرة، تحول مهم منذ بداية القرن العشرين، أوجد ما عرف بالقرن الأمريكي، الذي تمتعت فيه أمريكا بوضع القوة الأكبر عسكريا، والأغنى اقتصادا، والأكثر تقدما، والتي آلت إليها قيادة العالم الغربي، وتوسع نفوذها إلى أرجاء العالم.
وعلى امتداد قرن بطولة، وفي ظروف مهيأة، نمت الفكرة، وترعرعت، وترسخت في الأذهان والعقول، حتى إنني لا أنسى كلمة قالها لي ذات مرة صحافي أمريكي: كل هذا جعل الأمريكيين يشعرون أن أمريكا قارة كبيرة جدا، وعلى البعد منها عالم صغير جدا.
ثم جاء وصول المحافظين الجدد إلى الحكم، بفكرهم العقائدي الذي لا صلة له بالواقع، فقد غابت عن إدراكهم النتائج المتوقعة للتحولات الجارية، وسيطرت عليهم فكرة اختطاف النظام العالمي قبل أن يدركه التحول إلى نظام تعددي. لكن حساباتهم قامت على سوء التقدير، فخابت توقعاتهم. عن صحيفة الخليج الاماراتية 2/7/2008