المؤرخ الأمريكي ريتشارد هوفستاد, له عبارة ترددت كثيرا في مؤلفات ودراسات أمريكية تقول: إن أمريكا لا تحتاج لأن تتخذ لنفسها عقيدة Ideology فأمريكا في حد ذاتها هي عقيدة. وهو يعني أن القيم والأفكار والنظريات والسياسات والتقاليد التي تحكم المجتمع الأمريكي, هي قواعد راسخة لا يصح أن تتغير, ويلزم أن يستلهم منها العالم أنظمته وقيمه. هذا الرأي ضارب في عمق المجتمع الأمريكي, وتحمل راية الدفاع عنه قوي وتيارات ومؤسسات مقتنعة أن أمريكا لا يمكن أن تكون علي خلاف ما هي عليه القوة الأعظم صاحبة الهيمنة التي تقود العالم, وتشكل نظامه الدولي, وأوضاعه, وعلاقاته. من هنا كان المأزق الذي لقي أوباما نفسه فيه, وألقي به في وضع يفت في عضد قدرته علي الحسم في قراراته, ويبطئ من إيقاع حركته. وللمأزق جانبان, ففي ناحية منه نشطت في السنوات القليلة الماضية حركة ضمت قوي وتيارات لا تقل قوة وتأثيرا عن أصحاب مقولة إن أمريكا هي العقيدة التي لا يسمح بالخروج عليها, وتبنت هذه القوي الدعوة للتغيير, بدافع من فهمها وإدراكها أن العالم يتغير, وأن عدم ملاحقة طبيعة العصر يعرض أمريكا لمخاطر تهدد مصالحها الحيوية وأمنها القومي, لأنها تضع نفسها في صدام مع تحولات تاريخية, هي في حقيقتها أشبه بأعاصير جارفة. وهذه الحركة المجتمعية التي ضمت النخبة وقطاعات هائلة من الرأي العام, قد سبقت ظهور أوباما بثلاث سنوات, وهي التي حملته إلي البيت الأبيض في خروج علي المواصفات التقليدية المستقرة لمن يكون رئيسا. ومن ثم لم يكن قيامه برفع شعار التغيير اختراعا من عندياته, لكنه تعبير عن واقع أصبح موجودا ومنتشرا في الولاياتالمتحدة. هذه القوي اقتنعت بأن نجاح أمريكا في مواجهة التحديات في السنوات المقبلة, لن يتحقق إلا بإقناع الدول الصاعدة, كالصين, والهند, والبرازيل, ودول أخري غيرها, بأن أهداف السياسة الأمريكية لا تتناقض مع مصالح هذه الدول, بل تخدمها! وضمن هذه التحديات منع امتلاك إيران القنبلة النووية, واستقرار النظام المالي العالمي, واحتواء أضرار تغير المناخ, وإدارة الأزمات الإقليمية, وتفادي تأثيرات الدول الفاشلة علي أمن وسلامة المجتمع الدولي بشكل عام. كان هذا الاقتناع قد أخذ يترسخ بين النخبة ومراكز صناعة قرار السياسة الخارجية إلي أن استقر كعقيدة سياسية لدي أعلي مستويات مؤسسات الدولة, ومنها المجلس القومي للمخابرات الأمريكية الذي أعلن في تقريره المنشور في نوفمبر2008 أن الولاياتالمتحدة لم تعد تستطيع وحدها مواجهة التحديات لأمنها القومي, أو أن تحل منفردة المشكلات والأزمات الإقليمية والدولية, وأنها أصبحت تحتاج شركاء يتعاونون معها. لقد ظهرت حساسية المأزق الذي وجد أوباما نفسه فيه, وكأنه يمشي علي حبل مشدود, طرفه في يد المؤمنين بأن أمريكا عقيدة, والطرف الثاني يتمسك به دعاة التغيير, مما أدي إلي بروز هذه الظواهر: * المجموعة الأولي لاتزال تتمسك بقوة بأن أكثر ما يخدم مصالح أمريكا أن يخافها الآخرون, عن أن يحبوها, وهم يعيبون علي أوباما التخلي عن التشدد في الموقف من إيران وكوريا الشمالية. * أن مؤيدي أوباما يأخذون عليه عدم الحسم والتباطؤ في اتخاذ القرار حتي إن بعضهم وصفه بأنه بذلك قد أغضب الأصدقاء, وأرضي الأعداء, خاصة أن مؤيديه توقعوا عند توليه إيقاعا أسرع وأقوي للتغيير. * ما ظهر من عدم الارتياح بين عدد من خبراء الشرق الأوسط, ومنهم من تولي في عهود رؤساء سابقين, مهام إدارة ملف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين, ووضعوا علي مكتب أوباما من أول يوم آراء مكتوبة, تطالبه بدور حاسم وقاطع في حل هذا النزاع, ومنهم من أرجع فشل الإدارات الأمريكية السابقة إلي عدم الحسم, وإغماض العين عن تجاوزات حكومات إسرائيل, وربطوا ذلك بتأثيره الضار علي الأمن القومي للولايات المتحدة, ومن أبرز هذه الآراء المشروع التفصيلي من17 ورقة الذي وقعه عشرة من هؤلاء الخبراء, علي رأسهم برنت سكوكرفت مستشار الأمن القومي للرئيس بوش الأب. * أن البعض أرجع جانبا مهما من أسباب تردد وتباطؤ سياسات أوباما إلي ضغوط الجمهوريين اليومية عليه, وحملاتهم المنظمة ضده, وإلي رغبة أوباما في تجنب صدام معهم ومع القوي اليهودية, حتي يضمن الفوز بولاية ثانية, في ظل تراجع نسبة التأييد له, في استطلاعات الرأي العام. * ومن مظاهر التناقض أيضا التي سجلت عليه ميل أوباما إلي الابتعاد عن سياسة الحكومة السابقة, بالضغط علي الأنظمة التي لا تطبق الديمقراطية, بينما كان أوباما من دعاة هذه السياسة التي تأصلت لدي الرأي العام والكونجرس, انطلاقا من الاعتقاد بأن غياب الديمقراطية في هذه الدول يمس الأمن القومي الأمريكي, وبعد أن تحولت هذه الفكرة إلي مبدأ انتشر بين الرأي العام, وأخذوا به في الكونجرس. إن جذور مأزق أوباما ممتدة إلي ثقافة قومية, أرسيت ركائزها, منذ بداية القرن العشرين, والذي حمل اسم القرن الأمريكي ثم ترسخت قبل نحو خمسين عاما, وتربت في ظلها أجيال وأجيال, تصلبت عقيدتها مثل صخرة تعترض سفينة التغيير التي حملت من يرون أن التغيير إنقاذ لأمريكا.