بيروت: صدر مؤخرا كتاب "الهدنة" عمل للروائي الأميركي اللاتيني ماريو بينيديتي ترجمة صالح علماني، وبداخلها أسئلة ثلاثة تشكل عماد الرواية وجذرها. أيمكن لأمة أو دولة أن يكون جل مواطنيها موظفين يعيشون بالعاصمة، في مكاتب حكومية أو خاصة؟ ولإنسان أن يصاب بجنون الحب وهو على أبواب التقاعد؟ ولموظف روتيني أن يصير شاعراً؟ . تلك مفارقات رؤية "الهدنة" كما تخبرنا جريدة "السفير" اللبنانية، حيث جاءت على شكل يوميات حميمة على لسان بطل الرواية السيد سانتومي، وفيها يؤرخ لحياة الموظفين الذين يشكلون جل الطبقة الوسطى في الأوروجواي، وما يصيبها من إحباطات. سانتومي نفسه في جزء من اليوميات، هو الذي أشعل الحب، بل الحياة، في قلب كادت تنطفئ فيه كل حياة. تجري أحداث رواية "الهدنة" في مدينة مونتفيدو، عاصمة الأوروجواي، ماكوندو، بينيديتي، وفيها نصف سكان هذا البلد. أسئلة كثيرة يثيرها بينيديتي حول شكل الحياة لكائنات محبوسة في مكاتبها وجدران هذه المكاتب، متألمة وغير سعيدة، حتى إذا ما حانت لحظة الافراج عنها، لحظة حرية الكسل والتمتع بالحياة "الاحالة على التقاعد"، يبدأ الانفصال الأليم عن "الروتين"، وتبدأ الحيرة ومشاعر الفقدان للعمر الطويل الذي تعوّد أن يكون رهينة عاداته، ورهينة البيروقراطية والسأم وقلة الأوكسيجين. هذه اللحظة المأزومة للموظف سانتومي الخمسيني، الذي تنتظره شهور ستة فقط للإحالة على التقاعد، اللحظة الفارقة بين عيشه ك "روبوت"، أي إنسان آلي، يحفظ دقائق يومه وليله عن ظهر غيب، وبين خروجه من هذه المتاهة إلى رحاب حرية لا يعرف كيف يتذوقها، خصوصا وسط عائلته المؤلفة من أبناء ثلاثة لا يجمعهم الود، المطلوب، الكفيل بالتغلب على الصعاب. في هذه اللحظة الزمنية الفاصلة اذن، يتدخل الكاتب بإسباغ عطايا حب جديد، إلى قلب سانتومي الحائر، الخالي، الذي لم تعد تسعفه ذاكرته على مجرد تذكر تفاصيل وجه، وابتسامة، وباختصار ملامح زوجته المتوفاة باكراً، وقد تركته هذه إلى مصيره المرتبك في تحمل مسئولية باهظة حيال تربية ثلاثة اطفال، لم يبدوا في مرحلة شبابهم على انسجام وتناغم بين طباعهم وطباع والدهم، وإن بدت الإبنة أكثر قرباً ودفئاً وتفهماً لوالدها لتشابه ازمتيهما، كل تبعاً للعمر والمعرفة.