" حينما يأتى وقت الصلاة تكون وجهتنا صوب مكة ، وعندما يأتى وقت البناء تكون وجهتنا صوب اليابان " ، تلك الكلمات التى غيرت مسار دولة من فقر مدقع الى تقدم ملحوظ تفتخر به ، ومن قالها كانت لديه الرؤية والفلسفة والرسالة والإستراتيجية والبرنامج للتنفيذ انه " مهاتير محمد " الطبيب ، الإقتصادى الأشهر ورئيس وزرائها فى الفترة من عام 1981 حتى عام 2003 والذى استطاع وبحق ان يحصل على لقب " صانع نهضة ماليزيا " ، ولعل ما يثير اعجابى بالرجل انه استطاع انجاز التقدم لبلاده فى فترة وجيزة لم تتجاوز 20 عاما حققت خلالها دولة ماليزيا الرفاهية الاقتصادية حيث ارتفع دخل الفرد السنوى الى سبعة اضعاف ليصبح 8862 دولار فى عام 2002 ، وانخفضت نسبة البطالة الى 3 % ، ومن هم تحت خط الفقر وصلوا الى نسبة 5 % بعدما كانت نسبتهم 52 % ، ايضا ارتفعت صادرات بلاده من 5 مليار دولار الى 520 مليار دولار سنوياً ، واخذ على عاتقه تعديل شكل الدولة الاقتصادى من دولة زراعية الى دولة صناعية متقدمة يمثل ناتجها الصناعى حوالى 90 % تقريبا من ناتجها الاجمالى ، وفقا لرؤية موضوعية لديه تؤكد على ان تفوق دولة ماليزيا يأتى من التصنيع ( ظروف الموقف ) . وما سبق يؤكد على ان قوة الرجل كواحد من اعظم الاقتصاديين الذين اثروا فى دولهم واستطاعوا ان يكونوا قياساً مرجعياً لدول اخرى انما جاء من خلال رؤيتهم السليمة ودراستهم بحيادية تجاه استخدام نواحى القوة وادارة الفرص لدولهم . لقد اختار " مهاتير محمد " دولة اليابان كمثال يحتذى به لإحداث النهضة فى بلاده ، اذ ان ظروف اليابان كدولة عانت فقر الموارد وويلات الحرب واثار الدمار الذى خلفته ، لم يمنعها ذلك من ان تحاول الانطلاق فور الخروج من الحرب العالمية الثانية انما يمثل روشتة اقتصادية حقيقية لمن يريد ان يتقدم مثلها ، فلقد حققت اليابان ثقل دولى على كافة المستويات وخاصة التصنيعية فى وقت قياسى للغاية جعلت رئيس وزراء ماليزيا الاسبق يسير على نهجها الاقتصادى الى ان تفوق واحدث النقلة النوعية لدولته انطلاقا من استراتيجية يابانية تستهدف انتاج سلع جيدة بأسعار زهيدة ساهمت بشكل كبير فى التفوق على نظيرتها من المنتجات الامريكية والاوروبية وبالتالى نجحت فى السيطرة وقيادة السوق فى دول اسيا وافريقيا ، ودعنى عزيزى القارىء اتوقف عند هذه النقطة فى مقال اليوم كونه مقال يتناول التوصية الثانية لتنمية الاقتصاد المصرى والتى تهتم بتحديد تشكيلة المنتج المصرى . اصبح من الاهمية بمكان العمل على تقييم الصناعة المصرية من اجل الوقوف على اسباب عدم مواكبتها للصناعات الدولية " اللهم بعض المنتجات التى اثبتت نجاحها " ، فالنظرة الضيقة لعوامل الانتاج التقليدية ( الأرض ، العمل ، رأس المال ) لابد من ان تتسع الى تضمين المزايا التنافسية المبنية على المعرفة والتكنولوجيا ، حيث تقاس معدلات الانتاجية للعوامل التقليدية فى عصر العولمة بمدى الكفاءة فى ادارة عمليات المعرفة وهذا ما يطلق عليه مفهوم القيمة المضافة التى تحقق التميز الذى نسعى اليه فى الفترة المقبلة لمصر الجديدة . ان رسم خريطة للصناعة المصرية لابد من ان يأخذ فى عين الاعتبار مجموعة الحقائق التى ترسخت فى نهايات القرن العشرين ، واهمها ان الاقتصادات المغلقة لم تعد ممكنة لاحداثها الاكتفاء الذاتى ؛ انما عبور القارات واختراق الحدود اصبح السمة السائدة لاقتصادات هذا العصر الذى يغلب عليه ديناميكية التغير بصورة سريعة قد تصل الى حد الشراسة فى بعض الاحيان ، فالاستثمار فى عالم اليوم لا يتقيد بمكان واحد ولا يتأثر بسياسة واحدة واصبحت اسواق المال تدار بواسطة شبكة معلوماتية نشطة على مدار اليوم ، واتسع مفهوم البيئة ليشمل البعد العالمى تؤثر وتتأثر ، بشكل مباشر و غير مباشر ، ولعل هذا ما يدلل على ان التطور فى التكنولوجيا والمعرفة الادارية اصبح العنصر الحاكم والمؤثر فى فاعلية وكفاءة التصنيع والسلاح الخفى لادارة معركة الانتاج على المستوى العالمى . ان العقل والمنطق يقول انك حينما تريد ان تدير معركتك لابد من ان تبحث عن جوانب قوتك وتستطيع استثمار تلك القوة لجلب الفرص لديك فى محاولة منك لاقتناصها والاستفادة منها ، وهذا ما تحتاجه مصر فى تلك الفترة فيما يتعلق بكتابة اجندة صناعتها من خلال تحديد الصناعات ذات الميزة النسبية فى عوامل الانتاج الاساسية ، ودعنى اركز على ان هذا المحور هو نقطة البداية ولكنه ليس بالضمان الكافى لاستمرارية التقدم ، فهذه المرحلة يجب ان تتحول الى مرحلة الابتكار دون المرور بمرحلة الاستثمار ، ولعل هذا ما يجعل الاختيار محدودا بمجموعة الصناعات التى لا تعتمد اعتمادا كبيرا على اقتصادات الحجم ، ثم تنتقل اجندة الصناعة المصرية بعد ذلك الى ما يمكنها من الاستمرار والتحول الى الابتكار من خلال الحصول على التكنولوجيا المطلوبة وبالطريقة المثلى فى حدود الموارد المتاحة ( الكفاءة الاقتصادية ) ، واهيب فى هذا الشأن متخذى القرار فى الدولة بالتريث قبل الاستعانة بالخارج ان نقيّم ما بالداخل اولا من خلال الاجابة على سؤال هام وهو " ما هى طرق التنمية الصناعية التى يجب ان نسلكها ؟ " والاجابة على هذا السؤال من شأنه تحديد المسار فإما ان تكون التنمية الصناعية ذاتية من خلال توافر التكنولوجيا المحلية ، رأس المال والمعرفة الادارية وهذا طريق ، او اللجوء للعالم الخارجى لاستيعاب التكنولوجيا من خلال دعوة المصنعين الاجانب . ولعل ما يؤكد على اهمية سؤالى الذى اطرحه على من يهمه الامر ان نجاح دولة ماليزيا جاء من خلال وضوح اجابتهم علي هذا السؤال حيث انهم لم يكن لديهم التكنولوجيا الحديثة المطلوبة ، ولكنهم سلكوا طريق التعامل مع العالم الخارجى بدعوة المستثمرين الاجانب للاستثمار فى مجال التصنيع ، وبفضل تضافر جهود الجميع " الشعب ، القطاع الخاص ، الحكومات المتتابعة " حققوا النجاح . ان تحقيق التنمية الصناعية والتقدم الصناعى لمصر ليس امر بعيد المنال ، بل يمكن تحقيقه بكل سهولة اذا ما كانت هناك رؤية علمية حقيقية تستهدف احداث تلك التنمية الصناعية من خلال : 1- قناعة الدولة المصرية ويقينها بقدرتها على بناء قاعدة صناعية قوية ، فعوامل الانتاج حباها الله لمصر والمتمثلة فى " الارض ، العنصر البشرى ، الموارد " . 2- البناء الاستراتيجى ، فالدول التى حققت التقدم واحدثت المعجزة الاقتصادية كاليابان ، ماليزيا و النمور الاسيوية كان نتاج وضع خطط استراتيجية بعيدة المدى ، وهذا ما نحتاجه بالفعل لبناء مصر الجديدة ، شرط ان يضع الخطة كوادر متميزة لها باع طويل ونجاحات مشهود لها بذلك ووفقا لدراسات موضوعية تقيّم جوانب القوة والضعف وتحدد الفرص والتهديدات المحتملة . 3- ضرورة الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة ، فطريق البناء الصناعى يبدء من هنا ، فدولة اليابان تعتمد بشكل رئيسى على المشروعات الصغيرة فى دعم اكبر مصانعها كالسيارات والالكترونيات ، والمطلوب من الفترة الحالية ضرورة نشر هذا الفكر من خلال انشاء المبادرات التى تركز على دعم تلك المفاهيم . 4- القضاء على الإحتكار ، حيث يعد هذا المطلب من الامور الجوهرية التى تقلق اى مستثمر اجنبى ، اذ ان رأس المال بطبعه " جبان " ، فكيف يأمن مستثمر على امواله فى ظل وضع احتكارى من قبل جهات تعمل بعدم حيادية كما كان يتم فى العهد السابق . 5- القضاء على البيروقراطية ، واقصد هنا بالبيروقراطية العمل الروتينى الذى يعد حملا ثقيلا على اى مستثمر محلى او اجنبى ، ممكن يجعل سوق الاستثمار طارد وليس جاذب ، ويضمن نقاء ذلك المطلب سن تشريعات مساندة ومدعمة للاقتصاد على نحو يحقق اهداف البناء الاستراتيجى . 6- توفير التمويل الميسر ، لابد من فتح مجال التمويل الصناعى بالمؤسسات المالية وبشروط ميسرة مضمونة ، تعمل على خلق معدلات سريعة لدوران رأس المال فى الاقتصاد . 7- الاهتمام بالتسويق ، من اهم عوائق التقدم الصناعى فى مصر هو عدم القدرة على التسويق ، لذا تتطلب الحاجة ضرورة توفير الدعم من جانب الدولة للاهتمام بهذا المفهوم . 8- الاهتمام بالدراسات والبحوث ، فالعلاقة طردية بين ما ينفق على البحوث والتطوير وتحقيق التقدم الصناعى ، شرط ان تجرى تلك البحوث بصورة موضوعية تخدم الاهداف التى انشئت من اجلها ، والجامعات المصرية والمراكز البحثية عامرة بفضل الله من تلك البحوث القابلة للتنفيذ ولا ينقصها سوى تبنيها من جانب من يهمه الامر . 9- جذب المستثمر الاجنبى ، من خلال سن تشريعات تحفز على الاستثمار وجذب رأس المال الاجنبى ، حتى تتم الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة والمتطورة الموجودة بدول الغرب . 10- البنية التحتية لبناء قطاع صناعى حيوى ، من خلال انشاء مدن صناعية مستقلة ، اصلاح منظومة النقل ، اقامة وبناء الطرق على حسب المعايير الدولية ، تحديث الموانىء ، تطوير شبكات الاتصال وغيرها من المرافق التى تخدم المستثمر ومن ثم خدمة الاقتصاد ككل . وفى النهاية اختتم بقول المولى عز وجل " ان اريد الا الاصلاح ما استطعت ، وما توفيقى الا بالله عليه توكلت واليه انيب " .