لاشك أن الإنسان أهم شيء في هذا العالم حتى كاد أن يكون عالماً مستقلا ًُ،وذلك لأنه محور التغير في هذا العالم فهو محرك التاريخ ومسيره وآلة التقدم والتطور فيه،فلا تاريخ بلا إنسان، والتاريخ إنما هو تاريخ الإنسان . وأهم ما في الإنسان أو أهم جانب فيه هو الجانب الروحي "عقله وفكره" فالفكر يأتي أولاً ويتقدم في الإنسان عن عالم المادة والأشياء ،بل هو الذي يقود عالم المادة ويعطى للأشياء ومعناها وقيمتها . والناس ليسوا على درجة واحدة في المقدرة على قراءة كتاب الكون ،لآن الناس ما اختلفوا في شيء ولا تفاوتوا فيه قدر اختلافهم وتفاوتهم في العقل والفكر ، وما بين الرجحان و النقصان وغيرها من عوامل التفاوت والاختلاف وعناصرها تكون مكانة هذا الإنسان . ولذا فليس من الحكمة في شيء ولا من صواب الرأي أن يرفض أحد اجتهاد الآخر أو يضطهده أو ينفى وجوده لا لشيء إلا لأنه ليس مطابقاً لفكره تماماً ، فليس أشد فتكاً للفكر الرائد من ظاهرة التعصب والتشنج يمارسها البعض في حق البعض الآخر. والفكر لا يبدأ من الصفر و إنما هو خلاصة رصيد وتراكم تجارب والأفكار لها قدرة هائلة على التسرب والانتشار فإذا كان الإنسان يستطيع أن يقيم الحواجز بين الأجسام فليس بإمكانه أبداً أن يقيم مثل هذه الحواجز بين الأفكار ،والمقاومةالأفكار تؤدى لانتشارها ، والأفكار لاتنشر بالقوة واصطناع أساليب العنف بل هي تفرض نفسها بحسب ما لها من جذور وحيوية .وقدلا نكون خياليين إذا قلنا إن الأفكار كائنات حية تتمتع بكل صفات الحياة ومزاياها باستثناء صفة القيام بالذات . والأفكار معارف ،أو تولد المعارف ،والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معارف أخرى فالمعرفة نتاج المعرفة ، والفكرة نتاج الفكرة ،والمعرفة تولد المعرفة كما أن المال يُدرُّ المال . وللأفكار أعمار كما للناس أعمار ،وقد تظهر أفكار في غير زمانها فتخنس وتختفي ولكنها لا تموت بل تكمن وتنتظرا لفرصة السانحة مثل : النظرية الذرية ،ونظرية دوران الأرض حول الشمس (لا العكس )،وفكرة الذرة وفكرة الصيرورة ظهرت وخنست ولم تمت كما ماتت نظرية عقول الأفلاك. والأفكار مختلفة الآجال وكما أن للمجتمع مقبرة يدفن فيها موتاه كذلك له مقبرة يدفن فيها أفكاره تلك التي فقدت وظيفتها ومبرر وجودها . لذلك يروى عن عبد الله بن مسعود انه قال"من كان مستناً،فليسن بمن مات ،فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة " . وقال أحد العارفين [الشبلى] " من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه " . لذلك يجب أن ندرس لأمور جيداً قبل أن نتبنى أفكار،آي أفكار ؟ ونعرضها على المتخصصين بطريقة جيدة وأمينة (صورة العلم الدقيق Exact Science) . وعن أبى حنيفة قال "من طلب الرياسة في غير حينه لم يزل في ذل ما بقى واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يعد فيه ناقصاً". إن أكبر لغز في العالم والفلسفة وسر الأسرار هو طبيعة الفكر وطريقة عمله ،وإذا شغلت الإنسان فكرة فإنها تتحرك وتضغط وتمور وتلوب حتى تجد المنفذ أو تفرغ الشحنة كسحاب أثقله المطر .معظم الأفكار التي تنبثق في رأى الإنسان إنما هي وليدة الصعاب ،لاشيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم ،كل تطور طرأ على الحياة العقلية إنما تم بفضل ما اعترض هذه الحياة من عقبات ،فحينما تكون الحياة سهلة لينة يكون الفكر كسلان خاملاً ، وحيث تكون الحياة مطربة ينشط الفكر ويتوقد العقل . أن الأفكار نتيجة للصراع مع الذات ، يتمحور معها كيفما شاءت وأينما وجدت ، وللبيب من يقود أفكاره ، وليس العكس من أفكاره تقوده إلي المهالك ، لاننا نري في حياتنا الدنيا أفكاراً هدامة كثيرة جداً ، تدفع صاحبها إلي التهلكه . الإنسان هو بطل التغير فى الكون بفكره ، على سبيل المثال ألمانيا التي أنهكتها الحرب العالمية الثانية قامت من بين الأنقاض بالفكر وكذلك اليابان ،وما ينطبق على ألمانياواليابان ينطبق على الصين الشعبية ......... وإما الصين الوطنية فقد آثرت الانتماء إلى عالم الأشياء (الدعم الأمريكي). هناك عالمان عالم الأفكار وعالم الأشياء عالم الأفكار هو الذي يسخر عالم الأشياء وهو الذي يغير التاريخ ويصنعه .وإذا كنا في ما نفكر إنما نبحث عن الحقيقة، فإن الحقيقة نار محرقة نقترب منها بمقدار ونبتعد عنها بمقدار . والناس لا تحي بالحقائق وحدها ، إنها تضيق بالحقائق في أحيان كثيرة ،ففي الأوهام ترفيه لا تجده في الحقائق ........الحقيقة وحدها ليست الخبز اليومي للشعوب فهناك تعايش ودي وأخوى دائم بين الوهم و الحقيقة حتى في أرقى الشعوب وأكثرها نضجاً ،وجميع الأفكار لها طلابها والمعجبون بها مهما رثت وبليت ومهما بلغت في السخف والفحش والابتذال والتناقض والتهافت . أن صراع الأيديولوجيات قادم لا محالة ، وإتخذالوقاية من هذا الصراع لايتأتي من فراغ ، بل بالتمسك بالقيم والمباديءالسامية ، وفي هويتنا المخرج والملاذ الحقيقي الأمن .