كانت بيضاء، تنساب شعيراتها الصغيرة بنعومة فوق جبينها كي لا تخدش الطفولة المتفجرة فيه.. بعينين بلون الربيع كعيني والدتها، متسعة عميقة وغامضة كما البحر.. كانتا أول ما رأى منها وعشق.. وآخر ما تبقى في ذاكرته الضئيلة قبل الفراق.. ولمَ لا تكون سمراء فيها مسحة منه، وبسماته التي لم تفارق محياه إلا منذ تلك اللحظة التي أذابت كل ما كان.. وأبقت بصمة قوية مؤلمة في خاصرته ووجهه وكل ما يمكن أن يدله هو نفسه على معالمه وذاته..! يرقب الزاوية الوحيدة التي أتيحت له ليعطي لعينيه مدى من فراغ وضيق! يرخي رأسه إلى الحائط القذر خلفه، يتأمل عالما كان بين يديه وضاع.. مخلفا ،وراءه ، دمعته الأولى والتي، حتى الآن، لم تجف..! كانت قد حفرت في وجهه حفرا من دم قاني لا تمحي.. " لا.. لا! ستكون ولا شك نسخة عن أمها، فأنا ما عاد لي ملامح! ولا طباع.. أكاد أنسى كينونتي!" يغمض عينيه كمحاولة لنفض سواد الأفكار عن مخيلته، يمد يده قدر استطاعته، أو قدر ضيق المكان! يحاول تحسس وجه الصغيرة التي تتطلع حولها باحثة عن ظل له، أو حتى طيف..! لكنها لا تجده.. وهو لا يمسها..! آه ما أصعبها تلك الأحلام التي تمزق في الإنسان ذاته المتهشمة بعد مجرد أشهر بُعد في زوايا الظلمة الأبدية، لم يعد يذكر متى كانت آخر مرة مست أشعة الشمس جسده، ولا متى حتى تم اعتقاله.. يفتح عينيه فلا يكاد يلتقط من حلكة الظلمة سوى تلك الزاوية التي غدت، مذ أصبح في تلك الزنزانة، رفيقته ومؤنسة وحشته..! لتفتح له، رغم ضيقها، أبوابا لا تغلق من الذكريات والآمال التي، ما زال، لا يحيى إلا باستشاقه عبقها ولو كان علقما! تدور أشرطة الماضي وتتوقف عند تلك الفرحة التي انتظرها، حين أخبرته زوجته أنها ،أخيرا ، بعد طول انتظار، ستنير له حياته بطفل.. كان شتاء قاسيا حين هجمت عواصف الاحتلال على البيت بيته، كانت يده فوق بطنها تتحس الجنين الذي يكبر، لا يمكن أن ينسى كيف قذفوا الباب بأقدامهم القذرة دون مراعاة لحرمات المنازل، اجتثوه من بيته، من عيني زوجته، ومن كلمة اشتاق سماعها.." بابا"..! " ماذا تراها سمتها؟ كانت تريد أن تسميها بيسان، وكنت أريد أن أسميها ليلى..!" تتكوم أسئلة ضبابية في دماغه وتتبعثر تاركة حالة من الفوضى في أفكاره وتخيلاته، يضم ما تبقى من ساقيه إليه بساعديه، ويهبط برأسه الهائم الذي أحس أنه بحجم الدنيا، وتبدأ عيناه ببث عبرات، هي ذاتها عبرات زوجته التي انهمرت خوفا من مستقبل مجهول المعالم، وطمأنها هو، وقتها، بأن الفرج أقرب من موعد ولادتها..! والآن يتمنى لو كانت بجواره تضع يدها على جبينه، وتقرأ بحنان آيات من القرآن، تثلج صدره المشتاق وتزيح عنه ثقل هواء الزنزانة.. " هل كانت ستعرفني لو رأتني مرة..؟! بل هل سأعرف نفسي لو رأيتها بمرآة..؟ " يهز رأسه يمنة ويسرة بإرهاق، يرفعه بتضرع طالبا من ربه عونا ولطفا، يغمض عينيه بحسرة وألم، يضع يده على صدره بسكون، يتحسس نبض قلبه، كما كانت تفعل أمه حين كان يشاكسها صغيرا، ويقول.." لا زلت على قيد الأمل..!