المشهد الفلسطيني يحفل دائما بالمفارقات والمواقف الغريبة التي تستعصي على الفهم، ولكن الايام القليلة الماضية شهدت مسألتين رئيسيتين لا يمكن تجاهلهما: الاولى خطاب الدكتور سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني امام مؤتمر هرتزيليا الاسرائيلي، والثانية توجه السلطة الفلسطينية في رام الله للقبول بالعرض الامريكي باجراء مفاوضات غير مباشرة مع الجانب الاسرائيلي. الآراء اختلفت حول خطاب الدكتور فياض بين معارض، وهؤلاء هم الاغلبية، وبين مؤيد، وهم الاقلية، لكن اللافت ان بعض الآراء المؤيدة اشادت ب'شجاعة' الرجل وجرأته، واتفقت على وصف شمعون بيريس رئيس وزراء اسرائيل له بأنه 'بن غوريون فلسطين'. لا نعرف اين الشجاعة في ذهاب رئيس وزراء فلسطيني للحديث امام مؤتمر صهيوني، يبحث في القضايا الاستراتيجية الامنية التي تبحث كيفية استمرار اسرائيل قوية مستقرة ومتفوقة في محيطها العربي والاسلامي كقوة اقليمية نووية عظمى. الذين ايدوا الدكتور وخطوته تذرعوا بأنها كانت ضرورية لطرح وجهة النظر الفلسطينية امام هذا الحشد اليهودي المتميز، وهذا تبسيط ينطوي على الكثير من السذاجة، فهل الاسرائيليون، من امثال بيريس ونتنياهو، الذين حضروا المؤتمر، وتحدثوا من منبره، يجهلون وجهة النظر الفلسطينية، ويحتاجون الى الدكتور فياض لكي يعرّفهم بها؟ الم يتفاوضوا مع الفلسطينيين وسلطتهم لاكثر من سبعة عشر عاما، جرى خلالها مناقشة كل القضايا من الحدود واللاجئين والمياه والمستوطنات والقدسالمحتلة، فما هو الجديد الذي يمكن ان يضيفه خطاب الدكتور فياض الشجاع في هذا الخصوص؟ نحن امام محاولة التفاف خطيرة على الشرط الفلسطيني الذي وضعته السلطة ورئيسها للعودة الى مائدة المفاوضات، وهو شرط تجميد الاستيطان في القدس والضفة المحتلتين، فالدكتور فياض ذهب الى المؤتمر، والتقى نتنياهو وبيريس ومسؤولين آخرين، في وقت من المفترض ان تتوقف فيه المفاوضات واللقاءات السياسية مع الاسرائيليين. الدكتور فياض بخطوته 'الشجاعة' هذه، وحديثه عن بناء مؤسسات الدولة وبناها التحتية في خطابه، يؤكد التزامه بمشروع 'السلام الاقتصادي' الذي يطالب به نتنياهو، ويشرف على تنفيذه توني بلير، مبعوث اللجنة الرباعية، ورئيس الوزراء البريطاني الاسبق الذي شارك في تدمير العراق وقتل مئات الآلاف من ابنائه لخدمة الاهداف الاسرائيلية. السلام الاقتصادي هو النقيض الاساسي لمقاومة الاحتلال، لانه يريحه ويطمئنه، ويعفيه من كل التزاماته الدولية والقانونية، ويلهي الشعب الفلسطيني عن قضاياه الجوهرية الاساسية التي فجر ثورته وانتفاضاته من اجل تحقيقها. ' ' ' الاصل في المسألة ان لا يرتاح الاحتلال، وان يدفع المحتلون ثمن احتلالهم، ومصادرتهم لحقوق شعب آخر، ونهبهم لثرواته، ومن المؤسف ان جهود الدكتور فياض لا تصب في هذا الهدف، ولهذا تنهال عليه معلقات المديح من قبل بيريس ونتنياهو، وبما يشجعه قدما على السير في المخطط نفسه، ولا غرابة انه الآن يسيطر على اهم ثلاثة اسباب للقوة، الاول الأمن (شرطة دايتون) والثاني المال (جميع اموال الدول المانحة تتم من خلال قنواته)، والثالث الاعلام (اصبح تلفزيون فلسطين الرسمي ومعظم الصحف تخضع لرجالاته ودعمه المالي). لا يجادل احد في اهمية فرض الامن، وتنشيط الاقتصاد في مناطق السلطة بحيث تتحسن الظروف المعيشية للمواطن، ولكن شريطة ان يتوازى ذلك مع مقاومة، ولتكن سلمية في الحد الادنى، ولكن ما نراه حاليا هو استئصال للمقاومة العسكرية وقتل لكل اشكال المقاومة المدنية، مع بعض الاعتصامات المحدودة حول قريتي بلعين ونعلين لذر الرماد في العيون. وفي الاطار نفسه تبحث السلطة الفلسطينية ورئيسها عن مخارج للعودة الى المفاوضات مجددا،ً استجابة للضغوط الامريكية والعربية، وآخرها الانخراط في مفاوضات غير مباشرة، اي ان يجلس الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي في غرفتين منفصلتين، ويتنقل المبعوث الامريكي بينهما. المشكلة الاساسية لم تكن مطلقاً في شكل المفاوضات، كونها مباشرة او غير مباشرة، وانما في الاسباب الموضوعية التي ادت الى توقفها، وابرزها الاستيطان الاسرائيلي، وتمسك الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة بالقدسالمحتلة كعاصمة موحدة وابدية لاسرائيل، ومصادرة حق العودة.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يصعد على شجرة حتى ينزل عنها عندما اوقف المفاوضات انسجاماً مع موقف ادارة الرئيس اوباما، الصارم في حينه، بعدم الذهاب الى المفاوضات الا بعد تجميد الاستيطان بالكامل في القدس والضفة، وطالما لم تلتزم حكومة نتنياهو بهذا المطلب المنطقي والمعقول الذي يتماشى مع قرارات اللجنة الرباعية والتزامات خريطة الطريق، فعليه ان لا يذهب الى المفاوضات اساساً، مباشرة كانت او غير مباشرة. ' ' ' نفهم ان يطلب السوريون مفاوضات غير مباشرة عبر وسيط تركي، لان الظرف السوري مختلف، حيث لا توجد اتصالات او مفاوضات، ولكن ذهاب الفلسطينيين الى مفاوضات غير مباشرة، وهم يمثلون سلطة انبثقت من رحم الاحتلال، وتتعامل معه بشكل يومي، بما في ذلك التنسيق الامني الكامل، فهذه 'مزحة ثقيلة' لا تضحك احداً على الاطلاق. الانظمة العربية، والمعتدلة منها على وجه الخصوص، هي التي تضغط على السلطة ورئيسها للعودة الى المفاوضات دون شروط، بتكليف من الولاياتالمتحدة، ولذلك فالتشاور معها حول مسألة العرض الامريكي بالمفاوضات غير المباشرة، معروفة نتائجه مقدماً، ولا يحتاج المرء لكي يضرب بالرمل او يقرأ الطالع حتى يتعرف على الرد العربي في هذا الصدد. ندرك جيداً ان ورقة الضغط الاقوى التي تستخدمها الادارة الامريكية لاجبار السلطة على العودة الى المفاوضات هي ورقة المساعدات المالية التي تقدر ب 900 مليون دولار سنوياً، وهي ورقة مهمة لا يمكن الاستهانة بها، ولكن علينا ان نتساءل عما سيكون عليه الحال لو نفذت الولاياتالمتحدة والدول المانحة تهديدها واوقفت المساعدات فعلاً، فهل سيستمر سلام الدكتور فياض الاقتصادي، وهل ستظل المستوطنات الاسرائيلية ومستوطنوها ينعمون بالأمان والرخاء مثلما يفعلون حالياً؟ وقف المساعدات يعني انهيار السلطة وعودة 'حماس' الى الضفة الغربية، وربما 'القاعدة' ايضاً، فما الذي يمنع من ان تتحول الضفة، وربما المنطقة كلها الى 'يمن آخر' او 'بغداد اخرى' فإذا كان هذا ما يريده الامريكان والاسرائيليون، فهنيئاً لهم. شمعون بيريس كان يتوسل الى الفلسطينيين بوقف 'الجنازات' لمدة اسبوع، اثناء الانتفاضة الثانية، حتى يتمكن الاسرائيليون من تنفيذ خريطة الطريق والتقدم في المفاوضات نحو الدولة. الجنازات توقفت في الضفة الغربية منذ عامين ونصف العام، ولم تلتزم اسرائيل مطلقاً بخريطة الطريق او غيرها، بل ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك بقتل المطاردين في نابلس وقلقيلية بتواطؤ مع قوات امن السلطة، ومداهمة رام الله نفسها عاصمة السلطة لاعتقال ابناء 'فتح' حزب السلطة. اذا أراد السيد عباس العودة الى المفاوضات دون وقف الاستيطان في القدس فهذا شأنه، وعليه ان يحترم ذكاء الشعب الفلسطيني، ولتكن مباشرة، وعليه ان يتذكر في الوقت نفسه انها قد تكون نهايته، ونهاية ما تبقى له من الحد الادنى من المصداقية.