لم تكن عودة ملف جيفري إبستين إلى الواجهة مجرد استذكار لقضية جنسية مرت قبل سنوات، بل جاءت هذه المرة مدفوعة بخيبات أمل سياسية، وغضب شعبي أمريكي متصاعد داخل معسكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه، بعد أن خلصت وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أنه لا توجد قائمة "عملاء" يدينها إبستين، ولا أدلة على أنه قُتل في زنزانته عام 2019. أثار إعلان هذه النتائج عبر مذكرة من صفحتين، نشرها رسميًا فريق ترامب، موجة من السخط لدى أنصاره كما لدى خصومه، وتحديدًا من أولئك الذين لطالما آمنوا بأن إبستين كان يحتفظ بقائمة شخصيات سياسية واقتصادية نافذة، يتورطون في شبكة الاستغلال الجنسي للقاصرات التي كان يديرها. لكن كيف وصلت القصة إلى هذه المرحلة؟ ولماذا ما تزال تسكن مركز الجدل السياسي الأمريكي، رغم مضي ستة أعوام على وفاته؟ من هو جيفري إبستين؟ ولد إبستين في نيويورك، وبدأ حياته المهنية كمدرس في مدرسة خاصة مرموقة، قبل أن ينتقل إلى العمل في مجال المصارف الاستثمارية، حيث التحق بشركة "بير ستيرنز" ثم أسس شركته الخاصة عام 1982. بحلول التسعينيات، كان إبستين قد جمع ثروة طائلة، وامتلك عقارات فاخرة في عدة دول، بل وحتى جزيرة خاصة في الكاريبي، وأصبح على صلة بعدد من أقوى الشخصيات في العالم، بمن فيهم الرئيسان الأمريكيان الأسبق بيل كلينتون والحالي دونالد ترامب، بالإضافة إلى الأمير أندرو من العائلة الملكية البريطانية إلا أن جميعهم أنكروا ارتكاب أي مخالفات. بدأت ملاحقة إبستين القانونية فعليًا عام 2005 عندما اتهمته فتيات قاصرات بأنه عرض عليهن المال مقابل "جلسات تدليك" انتهت بأعمال جنسية في قصره في بالم بيتش. وفي صفقة قضائية أثارت غضبًا حينها، تهرب إبستين من الملاحقة الفيدرالية، ورضي بقضاء 13 شهرًا في السجن بتهم دعارة على المستوى المحلي، وتسجيل اسمه كجاني جنسي، وهو ما تسبب في تعرض المدعي العام آنذاك، أليكس أكوستا، لانتقادات حادة، رغم أنه أصبح لاحقًا وزير العمل في ولاية ترامب الأولى. لكن في 2018، بدأت عشرات النساء مجددًا في توجيه الاتهامات إلى إبستين، مما أجبر وزارة العدل على إعادة فتح التحقيق، وأسفر ذلك عن لائحة اتهام جديدة تتعلق بالاتجار الجنسي بالقاصرات، حتى عُثر عليه فاقدًا للوعي في زنزانته بمركز نيويورك الإصلاحي لينقل على إثره للمستشفى وتُعلن وفاته عام 2019 بعد تقدير وفاته على أنها انتحار. انتحار أم جريمة قتل؟ واعتُبرت وفاة إبستين في مركز الاحتجاز الاتحادي بنيويورك عام 2019 حالة انتحار بشكل رسمي. لكن الملابسات الغامضة المحيطة بالحادثة غذت نظريات المؤامرة، خاصة وأنه تم نقل زميل زنزانته قبل وفاته بيوم واحد، وتعطل نظام المراقبة، وكان الحراس المكلفون بمراقبته قد ناموا أو تجاهلوا واجباتهم. من جهتها زادت نتائج التشريح من الغموض، إذ أظهرت وجود كسور في الرقبة يمكن أن تكون ناجمة عن الشنق أو الخنق. كما وُجدت ملاحظة تُشبه "رسالة انتحار"، لكن ذلك لم يقنع المشككين، الذين رأوا أن إبستين ربما قُتل لمنعه من فضح شخصيات نافذة في الدولة. وبينما تصاعدت نظريات القتل، انتشرت مزاعم بامتلاك إبستين "قائمة عملاء" تضم أسماء لشخصيات شهيرة زاروا جزيرته الخاصة، أو تورطوا في الاعتداءات الجنسية. وسربت الوثائق لاحقًا سجلات رحلات طيران تشير إلى زيارات متكررة لعدد من الشخصيات العالمية البارزة إلى جزيرته. وعد ترامب وفي خضم حملته الانتخابية عام 2024، تعهد ترامب بالكشف عن ملفات إبستين "لتحقيق الشفافية الكاملة". إلا أن المذكرة الصادرة هذا الأسبوع عن وزارة العدل في إدارته جاءت مخيبة لآمال حتى أنصاره. وقالت المذكرة: "لم يتم العثور على قائمة عملاء تدين أي شخصيات بارزة، كما لم توجد أدلة ذات مصداقية على أن إبستين مارس الابتزاز ضد شخصيات معروفة". كما أُرفق مع المذكرة مقطع مصوّر مدته 10 ساعات، التقطته كاميرات الزنزانة في يوم وفاته، ويظهر عدم دخول أي شخص إلى الزنزانة. لكن بدلاً من تهدئة الجدل، أشعل هذا الإعلان موجة غضب على وسائل التواصل الاجتماعي، وطالت النيران المدعية العامة باميلا بوندي، التي كانت قد صرحت في فبراير بأن "قائمة العملاء موجودة على مكتبها". وقد أوضحت لاحقًا أنها كانت تقصد المستندات الكاملة المرتبطة بالقضية وليس "قائمة بعينها". من جانبه انتقد الإعلامي اليميني أليكس جونز هذا التراجع، وقال على منصة "إكس": "قالوا إن لديهم الفيديوهات، ثم يقولون الآن إنها غير موجودة ماذا؟ ما هذا؟". اهتمام شعبي متزايد رغم محاولة التعتيم وفي تحليل لاهتمام الرأي العام، قال هاري إنتن كبير محللي البيانات في شبكة "سي إن إن" الأمريكية إن البحث عن ملف "إبستين" ارتفع بنسبة 1900% خلال أسبوع، متفوقًا على مواضيع أخرى مثل "التعريفات الجمركية" وغيرها. وأضاف أن القصة "توحد أطيافًا مختلفة من اليمين الأمريكي"، بمن فيهم إيلون ماسك وستيف بانون، رغم خلافاتهما العلنية. وفي ذروة الخلاف بين ترامب وإيلون ماسك، اتهم الأخير، دون أدلة، ترامب بأنه مذكور في وثائق غير منشورة تتعلق بإبستين. لكن البيت الأبيض سارع إلى نفي تلك المزاعم، وحُذفت تغريدة ماسك لاحقًا. ورغم تصريحات وزارة العدل الأمريكية، لا يبدو أن قضية إبستين قد طويت فعليًا، حيث لا تزال شريحة واسعة من الرأي العام الأمريكي – لا سيما من أنصار ترامب – مقتنعة بأن حقائق خطيرة تم التستر عليها. كما لم تُنشر بعد عشرات الآلاف من مقاطع الفيديو التي زعمت بوندي أن مكتب التحقيقات يراجعها، والتي "قد تكون مرتبطة بأطفال أو مواد إباحية للأطفال"، حسب وصفها.