الرئيس السلوفاكي الأسبق يعرب عن أمله في انتهاء انقسام سلوفاكيا بعد محالولة اغتيال فيكو    أخبار الأهلي : سؤال لكولر يثير الجدل فى مؤتمر مباراة الأهلي والترجي    الهلال السعودي يتعرض لضربة موجعة قبل الديربي أمام النصر    توماس توخيل يعلن رحيله عن بايرن ميونخ في هذا الموعد    الإثنين.. مناقشة رواية بيت من زخرف لإبراهيم فرغلي بمبنى قنصلية    تعرف على شروط التقديم على وظائف العمل المتاحة في محافظة القاهرة    25 ألف فلسطيني يؤدون صلاة الجمعة في الأقصى.. واستشهاد شاب بالضفة    الأونروا: أكثر من 630 ألف شخص نزحوا من رفح منذ السادس من مايو الحالي    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    بعد إعادة انتخابها ل4 سنوات مقبلة.. المشاط تهنئ رئيسة البنك الأوروبي: حافلة بالتحديات    عيار 21 يسجل زيادة جديدة الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 17-5- 2024 بالتعاملات المسائية للصاغة    رئيس الاتحاد الفلسطيني يكشف تحركاته نحو تعليق مشاركة الكيان الصهيوني دوليًا    متابعة جاهزية اللجان بتعليم الجيزة استعدادا للشهادة الإعدادية    رئيس COP28: العالم أمام فرصة استثنائية هى الأهم منذ الثورة الصناعية الأولى    أبرزهم يسرا وسعيد صالح.. نجوم برزت عادل إمام وحولته للزعيم بعد نجاحهم فنياً    ليلى علوي في موقف مُحرج بسبب احتفالها بعيد ميلاد عادل إمام.. ما القصة؟    متحف البريد المصري يستقبل الزائرين غدًا بالمجان    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    مساندة الخطيب تمنح الثقة    مؤتمر أرتيتا عن – حقيقة رسالته إلى مويس لإيقاف سيتي.. وهل يؤمن بفرصة الفوز بالدوري؟    الإنتهاء من المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلى لمبنى المفاعل بمحطة الضبعة النووية    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    بوتين يعلن إنشاء منطقة عازلة في خاركيف بأوكرانيا    تحديث جديد لأسعار الذهب اليوم في منتصف التعاملات.. عيار 21 بكام    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    أحمد السقا: يوم ما أموت هموت قدام الكاميرا    هشام ماجد ينشر فيديو من كواليس "فاصل من اللحظات اللذيذة".. والجمهور: انت بتتحول؟    دعاء يوم الجمعة وساعة الاستجابة.. اغتنم تلك الفترة    أوقاف البحيرة تفتتح 3 مساجد جديدة    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    تناولها أثناء الامتحانات.. 4 مشروبات تساعدك على الحفظ والتركيز    اندلاع حريق هائل داخل مخزن مراتب بالبدرشين    كيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى موقف إسرائيل من رفح الفلسطينية؟    ما هو الدين الذي تعهد طارق الشناوي بسداده عندما شعر بقرب نهايته؟    ضبط سائق بالدقهلية استولى على 3 ملايين جنيه من مواطنين بدعوى توظيفها    المفتي: "حياة كريمة" من خصوصيات مصر.. ويجوز التبرع لكل مؤسسة معتمدة من الدولة    محافظ المنيا: توريد 226 ألف طن قمح منذ بدء الموسم    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    كوريا الشمالية ترد على تدريبات جارتها الجنوبية بصاروخ بالستي.. تجاه البحر الشرقي    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    تفاصيل حادث الفنان جلال الزكي وسبب انقلاب سيارته    وفد «اليونسكو» يزور المتحف المصري الكبير    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» موضوع خطبة الجمعة اليوم    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    "حزب الله" يشن هجوما جويا على خيم مبيت جنود الجيش الإسرائيلي في جعتون    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    محمد عبد الجليل: مباراة الأهلي والترجي ستكون مثل لعبة الشطرنج    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لأول مرة.. ناجون من عبارة سالم يروون تفاصيل ''القضية التي طرمخها النظام''
نشر في مصراوي يوم 23 - 01 - 2016

ثمة وقائع تُغيّر الإنسان تماما. حين يكون بالقرب من الموت، ثم ينجو. يحاول تقبل ما حدث، لكنه يظل غاضبا، يطن عقله بالأسئلة "هل كان من الممكن تجنب ذلك؟". تُذكره نفسه بأسماء الذين كانوا السبب، والذين لم يهتموا بتعويضه عمّا جرى، مسيرة طويلة من التفكير يقطعها محمود إسماعيل وحنان عوض، أحد القلة الناجين من حادث غرق العبارة سالم إكسبرس، 15 ديسمبر 1991. يسترجع مصراوي معهم ما حدث، كيف تخلت الدولة عن التحقيق في الحادث، أو تعويضهم كما ينبغي في ثنايا قصة لم تمت ذكراها بنفوسهم.
تفاصيل الغرق حاضرة بذهن محمود، يسردها بالكاد، بصوته المنخفض، شحوب وجهه، وتهدج أنفاسه، لا ينسى القدر الذي اختاره، تعلو محياه ابتسامة، يذكر أنه كان على وشك عدم الذهاب إلى العُمرة "الباسبور بتاعي كان فيه مشكلة والعميد مرضيش يخليني أطلع"، بكى صديقه شعبان، توسل إلى العميد، حُلت المشكلة وصعد محمود على متن "سالم" برفقة ثلاثة؛ صديقه وابني عمومته، أحمد وعلاء، ذهبوا لأول مرة معًا إلى السعودية، كانت أمنية كبرت بقلب الشاب في أواخر العشرينات من العمر، تمنى أن يتعلق بأسوار الكعبة المشرفة ثم ينول الشهادة.
فيما كان محمود راكبًا، عملت حنان كواحدة من طاقم التمريض بالعبارة، راودها حلم قبل الغرق بأيام، قالت للطبيب الذي تعمل معه "حلمت أن دبلة جوازري اتشقت نصين"، فرد الطبيب الذي كان بمثابة والدها إنه فأل سيء، تأكدت من ذلك حين انشقت عبارة سالم إكسبرس وهى على متنها. السيدة الخمسينية هي الناجية الوحيدة من العبارة المنكوبة "التفاصيل بتعدي أدامي كل يوم قبل ما أنام.. دي مش حاجة تتنسي"، تروي حنان.
أفضل عبارة وأسوأ كارثة
عام 1966 بُنيت السفينة "سالم" التابعة لشركة سما تورز، إذ تم تشييدها بفرنسا تحت إشراف هيئة التسجيل الفرنسية، وتعد "سالم" صاحبة نقل أول فوج من الجيش المصري في حرب تحرير الكويت، فيما صُنفت كارثة الغرق –حينها- كأسوأ كارثة بحرية في القرن العشرين، وهى من أكبر ثلاث فواجع بحرية مصرية في سجل الحوادث العالمية بحكم عدد الضحايا بعد حادث باترا وحادث السفينة النيلية 10 رمضان، حيث سقط في "سالم" قرابة 450 ضحية، فيما ضمت الحادثة ضحايا من جنسيات أخرى مثل زائير ك "سعيد المرسازي" الذي كان ذاهبا لأداء العمرة.
تزحف المشاهد على حنان مع كل إطلالة على البحر، كان راتبها 38 جنيهًا نظير عملها بالتمريض بمستشفى السويس العام، ثم جاءتها فرصة العمل على طاقم طبي بعبارة سالم براتب يصل إلى 600 جنيهًا، فحصلت على إجازة دون مرتب لتخرج في أول رحلة بحرية لها خارج مصر، بينما تأتيها دعوات من طاقم المركب أن تحضر ابنتها برديس معها، لكن شقيقة حنان فضلت أن تبقى برديس بالمنزل لحين عودتها، وينقذ القدر الصغيرة من محاولة غرق قادمة.
وحيدة انطلقت ابنة التمريض على متن العبارة، لا تنسى أول خطوة على المركب، توجسها من البحر، طمأنة "الدكتور علي"، مدير طاقم الأطباء، كان مسار "سالم" من السويس إلى ميناء ضبا ثم إلى السعودية، وفي طريق العودة إلى ضبا ثم إلى سفاجا ومنها عودة أخرى إلى السويس، على متن العبارة كان موعد عمل الممرضة من الثامنة صباحًا إلى الثانية ظهرًا، ثم من الخامسة إلى الثامنة مساءً، بين ذلك الوقت كانت تملك حرية التحرك على ظهر العبارة، أو تمكث في غرفتها بالدور الرابع أسفل السطح مباشرة، وقبيل الغرق، سألها طبيبها المشرف عليها "تعرفي تلبسي اللايف جاكيت يا حنان؟"؛ فتعلمت ارتدائه للمرة الأولى.
في الساعات الأخيرة قبل الغرق بقي الوضع عاديًا، الركاب يتحركون بحرية، الطقس بارد، والرفقاء العائدون من العُمرة يمازحون علاء الذي قرر حلاقة ذقنه قبل وصول ميناء سفاجا بساعتين "قولناله هي حبكت يعني قال محدش ضامن عمره".
"ولا يوم القيامة" عاشه محمود ابن محافظة سوهاج على متن عبارة سالم اكسبريس، تاريخ الغرق يحفظه كاسمه، رقم الغرفة بالطابق الرابع "424"، هاجس انتابه قبل الغرق بدقائق لكى يصعد سلم العبارة، خطوات قطعها في اتجاه السطح، وقبل الوصول ترج العبارة هزة عنيفة، أطاحت به في وسط البحر، فتمسك بسور العبارة "أنا آخر واحد نط في المية، اتشاهدت وقلت دي نهايتي".
"العبارة مش واخدة سرعتها يا قبطان"
قبل ذلك بحوالي نصف الساعة، سمعت حنان سائق العبارة يقول لقائدها حسن مورو "العبارة مش واخدة سرعتها يا قبطان". كانت تسير ب13 عقدة رغم أن سرعتها 18 عقدة، سمعت أيضًا أن طريقًا مختصرًا يوفر الوقت يفضل قائد العبارة اتخاذه، لتهرع الفتاة إلى الطبيب علي راوية له ما سمعته "قاللي ما تخافيش وخليكي في الكابينة بتاعتك"، فيما رأت بعينيها بعض الزوارق تخرج للبحر من العبارة "كنت عارفة إن دي مجرد مناورة عادية".
توقفت العبارة في مكانها، وأطلق الطاقم كرات سوداء على سطح الماء إشارة على وجود أعطال بها، تحكي حنان إن قائد المركب طلب المساعدة، بعد أن استطلع الوضع "شفت من غرفة القيادة المياه طالعة من شباك العبارة"، عبارات الاستغاثة ترددها حنان وكأنها لا تزال حتى الآن على سطح العبارة "المركب بتغرق ومحتاج مساعدة"، تشبثت بيد الطبيب السبعيني، دعوات بالغوث، قبل أن تغرق العبارة إثر اصطدامها بالشعب المرجانية.
مالت "سالم" في وجه الموج المرتفع ، بأربعة عشر درجة باتجاه اليمين، عرّضت من عليها لشبح الموت، من الأغلبية الفقيرة والمعدومين، وقالت شهادات نقلتها الصحف آنذاك إن عدد من الضحايا فقد كل أملاكه و"تحويشة "العمر بالبحر. ورغم ما ذكره رئيس هيئة الأرصاد الجوية شريف حماد، للأهرام المسائي في حينها، أن الجو كان صحوا وخاليا من الشبورة وسرعة الرياح من 16ل40 كيلو في الساعة وهو جو مناسب للملاحة، إلا أن العبارة اصطدمت بمجموعة من الشعب المرجانية، ودارت نصف دورة، فيما ذكرت مجلة المصور إن القبطان غير من سير السفينة بعض الوقت بسبب الظروف الجوية الصعبة، وأن السفينة واجهت بعض المتاعب وحدث شرخ بها بعد الاصطدام، والمياه بدأت في التسرب.
عبارة كاملة تغرق في 6 دقائق
ست دقائق كانت كافية لتغرق العبارة بالكامل، غاصت حوالي 30 قدمًا أسفل المياه، انشطرت نصفين، حاملة معها أحمد وعلاء وشعبان، إذ كانوا في طابق منخفض قبيل الغرق، فيما رأى محمود المياه تتدفق من الغُرفة التي يمكثون فيها "لسة صورتها وصوتها وهي بتغرق في ودني.. زي ما يكون خشب قديم بيتكسر"، لا يعرف محمود إلى الآن كيف خرج حيًا، كل ما يذكره "إني لقيت نفسي بقب على وش المايه وقدامي لانش إنقاذ". لم يعِ محمود وحنان وقتها أن 181 شخصًا فقط نجوا من 574 آخرين كانوا على متن "سالم إكسبرس".
رصاصات الاستغاثة التي أطلقها القبطان مورو في الهواء، لم تنجح لإحضار أي مساعدة للعبارة. بداخل كابينة العلاج كانت حنان، اجتاحت المياه العبارة، الأدوية تتساقط مام عينيها، انطفأت الأنوار، وبقيت هي في الظلام والماء المندفع، جرّتها الأمواج إلى حشود من الناس، صراخ الأطفال، نداءات يائسة، أصوات تتلاحق بالشهادتين قبل الغرق، دوامة أبعدتها عن مكانها، لترمي بها داخل المياه "كنا في شهر طوبة والمية ثلج".
الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف مساءً، ظلمات بعضها فوق بعض، محمود على متن قارب يحمل 200 من الناجين، البحر وحش لا يعرف الرحمة، من يسقط من القارب لا يعود، ومن تفلت يداه ينفلت عمره "لو جالك الغرق هتحط ابنك تحت رجليك.. كان كل واحد نفسي نفسي".
الدرافيل تنقذ الركاب قبل الحكومة
ازدحمت المياه بالغرقى، تنزل الممرضة أسفل الماء ثم تصعد مجددا، بين الحياة والموت تعددت المشاهد في ذاكرتها، رأت الضابط السكندري تهامي أحد أفراد الطاقم، ساعدها من أجل البقاء على سطح الماء، أعطاها مجداف واقتربا معا إلى رماصات المياه "الرماصة بتكون زي البرميل مقفولة ولما تتفتح بتساعد الناس وفيها أكل وشرب، لكن بعض الغرقى رفضوا يفتحوها، فبعدنا عنها"، مشاهد من درافيل تقترب رأتها حنان وسط الظلام الدامس، عناية إلهية جعلتها تتشبث بالمجداف الخشبي، تلاطمت حول جسدها الجثث، كان تهامي يعرف العوم بعكسها، فنصحها بأن تريح جسدها على الماء بمساعدته.
باتت الجثث حول حنان أوضح حين انشق نور النهار "فضلت متمسكة بالحياة على أد ما قدرت"، لم يعد يقوى جسدها على المقاومة، بعض الناجين احتضنوا الجثث ليطفوا بها فوق الماء، والبعض الآخر غطوا وجه الجثث احتراما، لا تنسى منتصر، أحد أفراد طاقم العبارة الذي أتعبته المياه؛ فنطق الشهادة وخلع سترة الإنقاذ معطيا إياها لحنان، تاركا نفسه للغرق، لم يتوقف لسان الفتاة عن نطق الشهادتين، لم تغب من خيالها صورة ابنتها برديس وهى تضحك وتلعب، ولم تتوقف عن البكاء، فيما تنهش الأمواج جسدها "جلدنا اتحلل في الميه".
على بُعد ساعات من ميناء سفاجا غرقت العبارة، فيما يتخبط القارب الذي يحمل محمود في البحر "كانت تيجي موجة تشيلنا نقول خلاص هنتقلب"، كلمات "يا ساتر يارب" تُردد بين الألسنة بأصوات عالية، إلى أن جاءت لانشات تابعة للقوات المسلحة في الثامنة صباحًا، لتنقذ 35 فردًا، هم الناجين من مائتين لم يتحملوا الأمواج والبرد.
مبادرات فردية تنقذ الركاب
"مجتوش من امبارح ليه" كان السؤال الأول من محمود لعساكر الإنقاذ، أخبروه أن خروج لانشات الإنقاذ ليلًا ممنوع، وهو ما ذكرته أيضا صحيفة الوفد وقتها بتأخر اللانشات قرابة الثماني ساعات لإنقاذ الغرقى، ولفرط ما عانى محمود ومن معه لم يصدقوا أنهم أصبحوا آمنين "قعدوا يهدوا فينا نص ساعة وطلعونا على اللانشات وأكلونا ونقلونا لميناء سفاجا"، ضمن تسعة آخرين عاد محمود إلى بلدته بسوهاج، فيما نجحت مبادرات فردية حينها في انقاذ الركاب، مثل مركب أبو بكر الصديق و مركب سعد حسن، فيما عاد صيادون آخرون يبكون بسبب تركهم لآخرين دون نجاه بسبب ضيق ازدحام المراكب، ورصدت صحف هذه الأيام مشاركة 115 غواصا من 30 قرية سياحية في عملية الإنقاذ، واستعانت الحكومة وقتها بغطاس ألماني يدعى "روبرت فورنتر" لانتشال الجثث.
بجانب تقصير الدولة لم تتوقف مساعدة الأهالي لإنقاذ الغرقى، ساهمت القرى السياحية بسفاجا في إعداد النعوش لضحايا الحادث، بعدما تراصت الجثث على الأرض بسبب نقص ثلاجات الموتى، فيما توالت الانتقادات للحكومة عبر اتضاح عدم وجود علامات ارشادية في مكان غرق العبارة، لإشارة أن هذا المكان به شعب مرجانية، وانتقد خبراء عدم وجود خرائط توضيحية للمنطقة، ورجوع الحادث إلى الرياح الشديدة، بل ذكرت جريدة الوفد أن الدرافيل ساهمت في انقاذ الركاب وحقائب الملابس التي ساعدتهم على الطفو، وذلك لتأخر لانشات الانقاذ.
حظ حنان كان أوفر من محمود قليلا، إذ جاءت طائرة إنقاذ تتبع القوات المسلحة صباحا، تحوم حول الجثث بحثا عن الناجين، ثم أطلقت نداءات تعلن أن هناك زورق قادم لهم، "لانش" به ثلاثة أجانب سحبوا حنان بعد أن تجمد جسدها بالمياه، راكب آخر يلوح في ذاكرتها بعد أن تم إنقاذه وهو يفرد ذراعيه، يقول لحنان "كانت بنتي على إيد وزوجتي على الإيد التانية قبل الغرق".
غضب الأهالي أمام المحافظة
الشهر ذاته ديسمبر 1991، سقطت ثلاث مصائب على رؤوس المصريين، فقبل حادث العبارة كان هناك حريق لأحد مخازن السكك الحديدة بإدكو، وغرق مجموعة من المنازل إثر سقوط جسر عقب انفجار في مصرف العامرية بالاسكندرية، اشتعل الغضب بعدها في نفوس أهالي الضحايا والمصابين، فعقب الغرق، تظاهر عدد منهم أمام مبنى محافظة البحر الأحمر في 19 ديسمبر 1991، احتجاجا على بطء الاجراءات التي تتخذها الحكومة لانتشال الجثث.
طالب الأهالي المسؤولين بتوفير المعلومات الكاملة حول حادث العبارة المنكوبة، والأسماء الصحيحة لذويهم، واستخراج باقي الجثث، فيما توالت الانتقادات منهم ومن وسائل الإعلام آنذاك بسبب وجود 33 سرير فقط في مستشفى سفاجا والتي استقبلت 41 حالة، واضطر الأطباء لإسعافهم في خيام، كما تراص أهالي الضحايا والمصابين في العراء بالبحر الأحمر، وفي الخيم من أجل انتظار البحث، ووصل عدد المنتظرين إلى 5 آلاف شخص.
حين وصل محمود منزله بسوهاج أخيرًا، كان الهدوء يخيم على المكان، لا نحيب ولا صراخ "أخويا سألني عن اللي كانوا معايا قولتله محدش طلع"، لم يبد عليه علامات الحزن، فقط الإرهاق والرغبة في النوم، غير أن ذلك اختلف حين رأى ابنة عمه تصرخ حزنًا على زوجها "طلعت الأوضة وبعدين مدرتش بالدنيا"، كمن دخل في غيبوبة ظل صامتا لخمسة عشر يوما، انشغل الأهل في دوامة البحث عن جثث الموتى، فيما هو قابعا بغرفته، لا يستقبل أي شخص، سوى والدته "كانت تدخل الأوضة تطبطب عليا وتدعيلي.. وأول ما تخرج كنت بعيط".
أسباب مجهولة للغرق
تفسيرات الغرق لم تنته، وظلت الحادثة حتى وقتنا الحالي دون معرفة السبب الأكيد لغرق العبارة التي فُحصت قبل خروجها بأسبوع، تحديدا 7 ديسمبر، وقيل إنها صالحة دون أعطال، طبقًا لما ذكره رئيس هيئة اللوديز علي أحمد بأن العبارة تحمل شهادة صلاحية دولية للملاحة، ومشهود لها بالكفاءة، وخالية من العيوب الفنية، تعددت الأقاويل، البعض ذكر رواية "الطريق المختصر" لسائق العبارة، واصطدامها بالشعب المرجانية، فيما قال اللواء صلاح الدين مختار رئيس هيئة مواني البحر الأحمر، إنه ربما يكون حدث "عطل مفاجئ" بالبوصلات الكهربية أو الكهرومغناطيسية، ونفى رواية "الطريق المختصر"، فيما قال جمال صبحي رئيس مدينة سفاجا إن المنطقة التي غرقت بها العبارة ممنوع الصيد بها لاحتوائها على الشعب المرجانية.
بينما كانت دموع محمود تنهمر، ثمة أسئلة تبادرت إلى ذهنه "العبارة اصطدمت بشعاب مرجانية.. ليه مبلغوش؟"، أوجعه هوان أرواح 625 مواطنًا على القبطان ومن معه، على حد قوله "عرفنا إنه كان عايز يختصر الطريق هو مفكرش في الناس"، غير أنه يعود ليخبر نفسه "بس دي أقدار". في الأيام التي أعقبت النجاة، تزاحمت المواقف في عقل الناجي الوحيد من بين الأربعة "شعبان صاحبي كان مصلي ووشه زي القمر.. كان معايا شوية فايش آخر حاجة كلناها سوا.. ابن عمي كان مخاصمني وصالحني قبل ما نركب العبارة بساعتين".
تعويضات في علم الغيب
عرفت حنان من الجرائد أن حسن مورو توفى غرقا أثناء احتضانه البوصلة، ثلاثة أيام كانت تستعيد فيهم الممرضة الوعي في غرفتها بالمستشفى، حاولت أن تجاهد ما ألم بها، أقوال للنيابة ثم للصحافة عن الحادث، والآن تنفي ل"مصراوي" ما نُشر وقتها عن تعويض هائل "اخدت 100 جنيه والمحافظ زارني، وبعدها خدت 5 آلاف جنيه تعويض من الشركة"، فتأخر إنقاذ الضحايا لم يكن خطيئة الدولة الوحيدة، كما تحكي الناجية.
التعويضات آخر ما جال بعقل محمود "ضاع مني حاجات ب20 ألف جنيه فمكنش فارق معايا ال5 آلاف بتوع الحكومة"، لم يصدق حين جاءه جواب عقب الحادث ب8 أشهر، يخبره بضرورة التوجه إلى الإسكندرية للحصول على مستحقاته، علم فيما بعد أن بعض الناجين رفعوا قضايا للحصول على تعويضات أخرى كما فعلت حنان، لكنه لم يفكر بذلك.
نقلت الأهرام المسائي، أن صاحب العبارة قد أبرم اتفاقا مع وزير الري وقتها عصام راضي، أن يعطي 55الف جنيها لأسر الضحايا و5000آلاف الأحياء وألف زيادة لمن هم دخل المستشفى، على أن لا تُرفع ضده أي دعاوى قضائية، إلا أن الدولة رفضت هذا العقد وتم رفع دعاوي قضائية وقتها ضد سالم، فقد كانت المعاهدات الدولية تنص أن التعويضات للغرقى في حدود 150الف جنيه أو 200 الف سالم.
"القضية اتطرمخت.. ومحدش فكر يجيب حق الناس، لا اللي ماتوا ولا اللى نجوا"، تحكي حنان أنها مع ناجين آخرين رفعوا قضية على صاحب العبارة المنكوبة، لكن صبر السيدة كان أقل من دوائر المحاكمة الطويلة، ووسط اتجاه بقبول التعويضات التي عرضتها الدولة، تقول "ده كان جهل من الناس.. سمعت أن صاحب العبارة سالم عبد الرزاق رش فلوس كتير"، شائعات كثيرة انتقلت عن العبارة "سمعنا إن العبارة أصلا كانت غير صالحة للسير، وإن المفترض أن في أي عبارة أبواب يتم إغلاقها للسيطرة على الغرق لكن محصلش، كلها كلام سمعناه".
لم تتوقف طلبات من محامين بإلزام الحكومة لتعويض الأسر المنكوبة كما ينبغي، وتوالت مطالبات من نواب البرلمان آنذاك للحكومة بتأمين إجراءات السلامة للسفن، ووضع العلامات الاسترشادية لتجنب الشعب المرجانية.
حسن موررو.. "الذئب الذي أكل يوسف"
ووسط إعلان سالم عبد الرازق صاحب شركة سما موتوروز إنه اتصل بالهيئات الدولية والمحلية لسرعة صرف التعويضات لأسر الضحايا طبقا للقوانين الدولية، انتقدت صحف صادرة حينها تقاعس الحكومة في تعويض الأهالي، مثل الوفد التي قالت في تغطيتها "هل حسن مورو هو الذئب الذي أكل يوسف؟"، وعبارات مثل "شماعة القضاء والقدر تحملت الكثير والكثير"، وقال عبد الصبور شاهين منتقدا الحكومة إن البطء في نجدة الغريق يجعلها والقاتل سواء. وذكر الكاتب محمود السعدني بمجلة أكتوبر "إن تلك الحوادث إن كانت بفعل القضاء والقدر تصبح ابتلاءا وامتحانا من الله لشعب مصر، لكن العبد لله يريد ان يلفت الانظار إلى أن علينا أن ننتبه جميعا لحالة الإهمال التي أصابت البلد، والبلد في معركة الخروج من عنق الزجاجة".
إلى الآن لا تقوى حنان على دخول ميناء سفاجا، تحكي لأولادها بجانب قصاصات الجرائد والمجلات ما حدث، تخبرهم عن فيلم "تيتانك" بنبرة تجمع بين السخرية والمرارة "أنا شفت أصعب من كدة"، محمود لازال تحت رحمة الحادث "مبركبش مراكب ولا بنزل البحر ومبروحش أصيّف عشان بخاف"، التمتع بالحياة صار أصعب على ابن سوهاج "الحادثة كانت زي الموت بالظبط.. بس الفرق إن اللي بحبهم ماتوا قصادي وأنا اللي فضلت"، أما العبارة التي حملتهما فلم يتبق منها سوى حُطام، يشهد على تحقيقات لم تتم، تعويضات لم تُدفع وناجيان يحاولان التأقلم بالكاد عقب 25 عاما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.