قبل فجر ليلة 11 من نوفمبر عام 2004 والتي وافقت السابع والعشرين من شهر مضان، كانت الأجواء متوترة ومشحونة في مستشفى بيرسي العسكري في باريس، الشيخ تيسير بيوض التميمي قاضي القضاة الشرعيين في فلسطين يجلس بجوار السرير الذي يرقد عليه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بلا حول ولا قوة له، بعد أن أخذت صحته في التدهور. قبلها بأيام كان وفد فلسطيني يضم محمود عباس وأحمد قريع ونبيل شعث وروحي فتوح، تحرك من رام الله إلى باريس، لمتابعة الحالة الصحية لأبو عمّار والتي كانت تزداد سوءًا يوما تلو الأخر، وفي الليلة سالفة الذكر تعلن الأجهزة الموصلة بجسد أبو عمّار التوقف عن العمل ليتأكد قاضي قضاة فلسطين من وفاة زعيمهم ويعلنها بشكل رسمي. إعلان وفاة الرئيس الفلسطيني لم يكن مفاجئا لأي متابع للأوضاع، فقبل أيام من الوفاة دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون، مسؤولي الدفاع إلى اجتماع لمناقشة مسألة جنازة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي تدهورت حالته الصحية بشكل خطير، وجرى في الاجتماع رفض طلب الفلسطينيين دفن ياسر عرفات في حال وفاته في القدس، وأبلغت إسرائيل القاهرة بأنها ستسمح بدفنه فقط في خان يونس في مدافن عائلته، الأمر الذي رفضه ابن شقيقته ناصر القدوة والذي كان يشغل وقتها منصب مندوب فلسطين لدى الأممالمتحدة، وأبلغ المسؤولين المصريين الإصرار على دفن عرفات في باحة المسجد الأقصى في القدس وفقا لرغبته، لكن شارون رفض، وبعد مفاوضات أقنعت القاهرة المسؤولين الفلسطينيين بقبول دفنه في حال وفاته في المقاطعة برام الله. الرئيس الفرنسي جاك شيراك، كان في مقدمة مودعي جثمان أبو عمّار أو (أبو الفلسطينيين) كما كان يعرف أمام المستشفى ثم ودعته فرنسا بمراسم رسمية مهيبة، وأقلت طائرة حكومية فرنسية جثمانه إلى القاهرة، حيث أقيمت له في اليوم التالي الجمعة جنازة عسكرية مهيبة بمشاركة وفود رسمية من 61 دولة وبحضور حشد من قادة الدول العربية والإسلامية والأجنبية، قبل أن تنقله مروحية عسكرية مصرية في يوم الجمعة نفسها إلى رام الله، في الوقت نفسه كان يتجمع نحو ربع مليون مواطن فلسطيني انتظارا لاستقبال جثمان زعيمهم ووضعه في ضريح خاص في المقاطعة دفن فيه "مؤقتاً". مات ياسر عرفات قبل أن يستطيع تحقيق حلمه الذي ناضل طوال حياته من أجل تحقيق ألا هو نيل الاستقلال والحرية وإنهاء الاحتلال لبلده فلسطين، كما أنه مات دون أن يستطيع الفلسطينيون تنفيذ وصيته بالدفن في باحة الحرم القدسي الشريف، حيث كان أوصى بالدفن هناك أو بنقل رفاته إليه بعد تحريره. لم يكن يتخيل أحدًا، أن تكون نهاية أبو عمّار على فراش المرض في مستشفى بباريس، فالرجل الذي ظل طوال حياته ينجو بأعجوبة من كل محاولات لاغتياله، منذ قاد قوات الثورة الفلسطينية في تصديها للقوات الإسرائيلية في معركة الكرامة في الأردن في 21 مارس 1968 ونجا خلالها من محاولة إسرائيلية لاغتياله، وحتى تعرض مقره للقصف بالمدفعية من قوات الاحتلال في 19/9/2002 لمدة ستة أيام متواصلة، مرورا بنجاته من موت محقق عندما سقطت طائرته وتحطمت في الصحراء الليبية أثناء رحلة انطلقت من الخرطوم في 7/4/1992. اسمه بالكامل "محمد ياسر" عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني، ولد بمدينة القدس يوم الرابع من أغسطس 1929،ونشأ في العاصمة المصرية القاهرة، ولكن بعد وفاة والدته زهوة في العام 1933 ترك عرفات وشقيقه فتحي منزل الأسرة في القاهرة، وتوجها إلى القدس حيث أقاما فيها مع خالهما سليم أبو السعود حتى عام 1937 حين عادا إلى القاهرة، ليعيشا في كنف الوالد مع بقية الأسرة، والتحق ياسر بمدرسة تدعى "مدرسة مصر". كان بداية مسيرته الجهادية ضد العدوان والاحتلال عام 1948 حين توجه إلى فلسطين للقتال ضد قوات العصابات الصهيونية، ثم انضم إلى "جيش الجهاد المقدس" الذي أسسه عبد القادر الحسيني وعُيّن ضابط استخبارات فيه. في العام التالي للنكبة التحق ياسر عرفات بالجامعة في مصر، ودخل كلية الهندسة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، وأسس مع عدد من الطلاب الفلسطينيين "رابطة الطلاب الفلسطينيين" في عام 1950 واُنتخب عرفات رئيسا لها. تخرج ياسر من الجامعة في العام 1955، وعقب تخرجه أسس رابطة الخريجين الفلسطينيين، ثم عمل مهندسا في الشركة المصرية للإسمنت في المحلة الكبرى في العامين 1956-1957، وفور اندلاع حرب السويس "العدوان الثلاثي" التحق عرفات بالجيش المصري كضابط احتياط في وحدة الهندسة في بورسعيد. في أواخر عام 1957، وعندما كان ياسر عرفات في الكويت أسس مع عدد من الفلسطينيين ومنهم خليل الوزير "أبوجهاد" حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح" في الكويت ثم توالى افتتاح المكاتب المختلفة للحركة. دخل إلى الأرض المحتلة في يوليو 1967 بعد شهر على سقوطها تحت الاحتلال عبر نهر الأردن للإشراف على سير عمليات الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، وقاد قوات الثورة الفلسطينية في تصديها للقوات الإسرائيلية في معركة الكرامة في الأردن في 21 مارس 1968 ونجا خلالها من محاولة إسرائيلية لاغتياله، وفي الشهر التالي عينته حركة "فتح" متحدثا رسميا باسم الحركة، وفي بداية شهر أغسطس من نفس السنة عينته ناطقا وقائدا عاما للقوات المسلحة لحركة "فتح" المسماة " العاصفة". انتخب في المجلس الوطني الفلسطيني في فبراير 1969 رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكان يتم تجديد انتخابه للمنصب في دورات المجلس حتى وفاته، ومع نهاية العام اختارته مجلة "تايم" الأمريكية "رجل العام" وتكرر ذلك في سنوات لاحقة. شارك وانتخب عرفات في قمم ومؤتمرات لمنظمات عربية وإسلامية وإقليمية بصفته ممثلا شرعيا عن السلطة الفلسطينية، وفي عام 1974 ألقى خطابا وصف بالتاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقال عبارته الشهيرة في ختام الخطاب "جئت حاملا غصن الزيتون في يد، وفي الاخرى بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي". حاول الإسرائيليون اغتياله في يوليو 1981حين قصفوا البناية التي تضم مقر قيادته في الفاكهاني ببيروت ودمروها كليا ليدفنوا تحت انقاضها أكثر من مئة شهيد، كما قاد قوات الثورة الفلسطينية في معركة الصمود ببيروت 1982 وخلالها نجا من عدة محاولات لاغتياله، وغادر بيروت يوم 30/8/1982 على متن السفينة اليونانية "أتلانتيد"، كانت اليونان محطته الأولى بعد المغادرة ومكث فيها يوما واحدا وغادرها إلى تونس المقر الجديد لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى. محاولات اغتياله لم تتوقف، ففي الأول من أكتوبر 1985، فقصفت 8 طائرات إسرائيلية مقر قيادته في حمام الشط بتونس ودمرته، كما نجا من نجا من موت محقق عندما سقطت طائرته وتحطمت في الصحراء الليبية أثناء رحلة انطلقت من الخرطوم إبريل 1992 . حصل عرفات بالاشتراك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين ووزير خارجيته شمعون بيريس على جائزة نوبل للسلام عام 1994، وفي العام نفسه حصل أيضا على جائزة هوفوات بوانيي للسلام وجائزة صندوق ريغان للسلام ، وجائزة الأمير استورياس"ولي العرش الاسباني"، وحصل على عدة جوائز اخرى واوسمة وشهادات دكتوراه فخرية من دول وجامعات خلال مراحل قيادته للشعب الفلسطيني. على المستوى الإنساني، تزوج عرفات من سها الطويل في تونس يوليو 1990، ورزق منها بانته الوحيدة في 24 /7/ 1995 وأسماها على اسم والدته الراحلة زهوة. مع بداية الألفية الجديدة، انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية إثر زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون للحرم القدسي الشريف يوم 28/9/2000. ومع قدوم شارون على رأس الحكم في إسرائيل بدأ حملة ممنهجة بدعم أمريكي لإلصاق تهمة الإرهاب بأبو عمّار، كما منعته إسرائيل يوم 8/12/2001من مغادرة رام الله إلا بإذنها وبدأت فعليا مرحلة محاصرته في رام الله، فغاب عن المشاركة في القمة العربية ببيروت مارس 2002 لأن شارون هدد بأنه لن يسمح له بالعودة إلى الأراضي الفلسطينية إذا غادرها، وبدأت القوات الإسرائيلية محاصرته داخل مقره بالمقاطعة في رام الله صباح 29/3/2002 ومعه 480 شخصا وأطلق الجنود النار والقذائف في جميع الاتجاهات. استمر الحصار الإسرائيلي لأبو عمّار في مقر إقامته برام الله مع منعه من مغادرة فلسطين وسط تهديد بعد السماح له بالعودة مرة أخرى، حتى بلغ الحصار أشده مع ظهور أولى علامات التدهور الشديد على صحته يوم الثلاثاء 12 أكتوبر 2004 وأصيب بمرض في الجهاز الهضمي. تدهورت حالته الصحية تدهوراً سريعاً يوم الأربعاء 27 أكتوبر2004، ووافق بنفسه على قرّار الأطباء بنقله إلى فرنسا للعلاج، بعد تلقي تأكيدات أمريكية وإسرائيلية بضمان حرّية عودته للوطن، وأدخل إلى مستشفى بيرسي العسكري في كلامار قرب باريس بفرنسا في 29 أكتوبر 2004 وتزايد الحديث عن احتمال تعرضه للتسمم، ثم تدهورت صحته أكثر، إلى أن صعدت روحه إلى بارئها فجر الحادي عشر من نوفمبر.