أنا الآن أرتدي ملابس الإحرام، وأتشوق إلى معرفة رأي زملائي في القسم العربي وأصدقائي في صورتي ملفوفاً بقطعة من القماش الأبيض. بالتأكيد سيضحك بعض أصدقائي، وربما بعض القراء أيضاً، على منظري، لكن لا بأس، فبرأيي يجب أن يمثل الإسلام المرح وحب الحياة أيضاً. لكن هذا لا يعني أنني لا أرى المرح وحب الحياة كل يوم هنا في مكة، برغم قدسية المكان وروحانية الجو، ووسط ملايين البشر المحتشدين هنا. أحد الأمثلة هي الحافلة التي تقلني مع حجاج من النمسا، وإيطاليا، والبرازيل، والصين. لغة التفاهم المشتركة هي الإنجليزية، مما يذكرني بأيام عشتها إلى جانب عدد كبير من الطلبة الأجانب لدى عائلة مسيحية كاثوليكية في دمشق. الفرق هنا هو أن جميع من في الحافلة مسلمون والجوّ مفعم بالقدسية. كل من حولي يتضرعون بالدعاء إلى الله، ويصلون حتى داخل الحافلة! لكن ما بين الصلوات والدعوات نتبادل النكات. اليوم هو أول أيام عيد الأضحى المبارك، الذي يتذكر المسلمون فيه قصة النبي إبراهيم المذكورة في القرآن، إذ أمره الله بذبح ابنه إسماعيل ليختبر إيمانه. وعندما قرّب النبي إبراهيم السكين من عنق إسماعيل ليذبحه، أرسل له الله كبشاً ليفدي به إسماعيل. في جميع أنحاء العالم يعيد المسلمون تمثيل هذا الحدث عن طريق ذبح الأضاحي وتوزيع لحومها على الفقراء والمساكين، إضافة إلى الأهل والأصدقاء أيضاً. هذا يحصل أيضاً في مكة، لكن على مستوى أكبر لكثرة عدد الحجاج. الصلاة في مراكز التسوق دعوني الآن أنقل لكم انطباعاتي عن المنطقة المحيطة بالحرم المكي والكعبة المشرفة. بجانب هذين المكانين المقدسين تنتصب ما يقال أنها أعلى ساعة في العالم، على ارتفاع 600 متر – ساعة عملاقة لم أر مثلها في حياتي من قبل. ومن المثير للاهتمام أيضاً وجود فرع لسلسلة المقاهي الأمريكية الشهيرة "ستاربكس" وعدد من مراكز التسوق بالقرب من الكعبة، التي تتحول إلى أماكن لأداء الصلوات عندما يمتلأ الحرم بالحجاج. في أحد مراكز التسوق هذه التقيت ليالي وفريد: زوجين من العاصمة النمساوية فيينا. هذه هي المرة الثانية التي تحجّ فيها ليالي إلى مكة. بكل حماسة تصف لي شعورها في مكة، ونحن واقفون وسط المحلات الفاخرة المتلألئة: "فجأة لا توجد لكل الأشياء التي أراها قيمة. هنا يشعر الإنسان بالقرب من خالقه، وبضآلة حجمه أمامه". ولدى سؤالها عن إمكانية إجراء مقابلة أخرى معها بالقرب من الكعبة، رفضت ليالي بكل ودية، قائلة: "أريد التركيز بكل جوارحي على الله". أتفهم شعور ليالي، ولذا أوجه أسئلتي إلى فريد، الذي يقول بأنه وجد موطنه الروحي هنا في مكة، لكنه يستدرك معترفاً: "أعتبر نفسي نمساوياً أصلياً... النمسا هي موطني". وقبل أن أواصل حديثي معهما، غاب الزوجان الودودان من فيينا وسط زحام الحجيج. ليلة بلا نوم في مكة الحج بالتأكيد ليس نزهة. لم يغمض لي جفن طوال الليل، بعد الصلاة على جبل عرفات، والرحلة الليلية إلى مزدلفة، التي يقصدها الحجاج لجمع الحصى التي سيرجمون بها الشيطان بشكل رمزي يوم العيد. وهنا أتذكر سؤالاً للقارئ توماس بودلكو من ألمانيا، الذي يستفسر عن مدى تأثير الترتيبات التقنية لتنظيم حركة الحجاج – التي شاركت في إنجازها ألمانيا – على الجو الروحاني في مكة. أجيب على سؤال توماس بالقول: لم تؤثر هذه الترتيبات على أي شيء، فالجو الروحاني هنا مشبع بالروحانية بشكل يثير الإعجاب، والكثيرون يقولون إن مستوى الأمن هنا ارتفع بشكل ملحوظ بفضل إسهامات المهندسين الألمان. لكنني افتقدت موهبة التنظيم الألمانية بشدة عند وصولي إلى مزدلفة، التي تعتبر محطة المبيت الوحيدة للحجاج. هنا يفترش الكثير الأرض ويلتحفون السماء! لقد احتجت إلى ثلاث ساعات لقطع كيلومترات قليلة، وعندما وصلت إلى مزدلفة صدمت بالفوضى العارمة التي شاهدتها هناك – مئات الآلاف يروحون ويجيئون في الشوارع. لقد رأيت بأم عيني حافلة تدهس أحد الحجاج المسنين، آمل أن يكون هذا الحاج قد نجا من الحادث بسلام. إجابات على استفساراتكم أما الآن فأعود للإجابة على تساؤلاتكم. السؤال الأول من قارئة دويتشة فيله بالإنجليزية سانديا مويرانغثيم: "كيف تعثر على الطريق الصحيح وسط كل هذا الازدحام؟". سؤال جيد عزيزتي سانديا. في البداية لم أكن واثقاً بأنني سأكون قادراً على إيجاد الطريق الصحيح، لكنني تعلمت هنا بسرعة، وعادة يكفي أن أتبع الحشود. على صفحة دويتشه فيله العربية في شبكة فيسبوك استفسار من يوري بوسطن حول الحياة اليومية في مكة بعد تأدية مناسك الحج. عزيزي يوري، باستثناء المنطقة المحيطة بالكعبة والمسجد الحرام، تبقى الكثير من محطات الحج خالية من السكان طوال العام، إذ لا توجد هنا سوى الصحراء! بعد عودتي إلى ألمانيا سأروي لكم بالتفصيل الحياة اليومية في المملكة العربية السعودية. ديركس145 أيضاً على الفيسبوك يسأل عن كيفية تأكد السلطات السعودية من عدم دخول غير المسلمين إلى مكة أثناء الحج. حول ذلك أقول إن على كل حاج أن يتقدم بطلب تأشيرة خاصة للحج في السفارة السعودية. وفي كثير من الأحيان يكون اسم الشخص دليلاً على أصله المسلم. وفي حالات الشك تطلب السفارة من المتقدم للتأشيرة دليلاً على إسلامه، من أحد المساجد في منطقته مثلاً. سؤال أخير من القارئة يوديت بوبيه من ألمانيا: "كم يدفع الحاج من المال أثناء أدائه لمناسك الحج؟". لقد استمعت إلى كثير من الأشخاص هنا، ومن قصصهم خرجت بمعدل 3000 يورو تقريباً. وبالطبع أنا غير مسؤول عن صحة الأرقام. بعد هذه الليلة الطويلة، يبدأ الحجاج أول أيام عيد الأضحى المبارك برمي الجمرات، بالإضافة إلى حلق شعرهم، وهذا سيكون موضوع الحلقة القادمة. لا يبقى لي سوى تهنئة جميع قراء ومتابعي يومياتي – مسلمين وغير مسلمين – بحلول عيد الأضحى المبارك. علي المخلافي