وضعتُه على صدري.. ليست هذه هي المرة الأولى التي أحتضن فيها أحدهم وأضعه على صدري، فكلما أحسستُ بالضياع بين جنبات المبنى الضخم، آخذ أحدهم وأضعه على صدري، أُحس بضربات قلبه الضعيف، تأخذني من صخب أصوات الممرضات، والأمهات والأطباء والعاملين، والشارع، والحركة المستمرة لتروس الحياة! كلما أحسست بالتعب، وحرق الأعصاب من التعامل مع العالم، آخذ أحدهم فأضمه إلى صدري.. ليرجع إلىَّ الإحساس بجمال العالم الذي نعيشه، جمال مأخوذ من جماله هو! كلما راودني الإحساس بالحنق على هذه المهنة، وعلى اليوم المنحوس الذي دخلت فيه إلى هذه الكلية، آخذ أحدهم فأضمه إلى صدري لأشعر بالرضا.. كل الرضا عما أفعله وفعلته وأنوي فعله طوال حياتي! رضا يتدفق من رضاه هو! كلما أخذني الصراع على المناصب، والتقدير، والترقية، والتملق لهذا والتمسح بذاك إلى الشعور بأن الحياة غابة، وأني يجب أن أكون أسداً ، وثعلباً، وثعبانا في نفس الوقت! كلما حدث ذلك، آخذ أحدهم فأضعه على صدري لأشعر بإنسانيتي تعود إلىّ أجمل وأكمل! شعور رائع بالحياة وهى تتدفق في جسدي، ولِمَ لا؟! فأنا أحتضن بين ذراعي الحياة في أجمل صورها على الإطلاق! طفلٌ لا أحس براءته بقدر ما أحس ضعفه ومرضه! لا أحس ابتسامته بقدر ما أحس بكاءه ونحيبه! لا أحس مقاومته لي، ورغبته في الرجوع إلى حضن أمه، بقدر ما أحس مقاومته للمرض ورغبته في الاستمرار في الحياة! رغبة أشعر أمامها بضعفي رغم حجمي الذي يبلغ أضعاف حجمه! وأجمل مافي هؤلاء الأطفال أنهم جميعاً في حاجة إلىَّ، إنه أجمل شعور في الدنيا.. أن تحس أن هناك من يحتاج إليك! أُقِرُّ هذا وأعترف به - أنا الطبيب المناوب في هذه الوحدة من وحدات مستشفى ''أبو الريش'' للأطفال. في ذلك اليوم بالذات كان على صدري أحد هؤلاء الأطفال الذين يسمون ب ''الطفل المغولي'' وعلى عكس كل توقعاتي قبل أن أدرس هذه الحالة، فإن ملامح هؤلاء الأطفال جميلة جداً! وأجمل مافيها ابتسامة الفم الممتلئ باللسان حين يصاحبها ضيق في العينين المسحوبتين لتعطي شعوراً بالرضا، كل الرضا! الطفل في الثالثة.. ساكن لا يبكي ولا يضحك.. كل مايستطيع أن يفعله هى تلك الابتسامة البشوشة من حين إلى آخر، أقول: إن هذا هو كل مايستطيع أن يفعله، لأنه مصابٌ بعيوب خَلقية أخرى في القلب مثل كثير من الحالات المشابهة، فيزداد إحساسه بضعفه، ويزداد إحساسي بعجزي وعجز كل مصادر العلم الحديث أمام حالته!! في هذه اللحظة بالذات، أحسست بوهج الحياة المنبعث منه يتضاءل! لم أستعمل سماعتي الطبية، لكنني أحسست بضربات قلبه تضعف، وضربات قلبي أنا تزداد.. كأنها تريد أن تدفع قلبه للاستمرار! نظرت إليه بعينيْ طبيب فوجدت تنفسه يزداد صعوبةً، وأطرافه تتحول إلى اللون الأزرق.. قمت من فوري، وهرع ورائي أحد الزملاء من أطباء الامتياز لأقرب مصدر لغاز الأوكسجين، وضعت الكِمامة على أنفه وفمه.. النبض يتلاشى، قال زميلي:''اضغط على صدره الصغير بكلتا يديك''.. أدفع من روحي إلى روحه، ولكنه ساكن، آخذ حقنة منشطة للقلب وأغرسها في صدره.. أصرخ ''بالله عليكم، فليُحضر أحدكم أحد الأساتذة''.. أصرخ مرة أخرى وأنا أنظر للزميل.. أقرأ في عينيه ماجعل حنجرتي تتوقف عن الصراخ وأقرأ في العينين المسحوبتين مايجعلني أتوقف عن الأمل.. كان البريق قد اختفى رغم بقاء الابتسامة! سالت دمعة من عيني لم تتبعها أخرى، وبصوت رزين وبرود - أثار دهشتي قبل أي شخص آخر- أعلنت أننا فقدنا المريض وعلينا إخطار أهله.. أظن أنني لن أعتاد هذه اللحظة أبداً مهما كانت خبرتي.. لحظة أن تفارق أجملُ صور الحياة! وفي اليوم التالي كنت أجلس إلى مكتبي، مرتديا معطفي الأبيض، وكانت تعبث بسلسلة مفاتيحي وهى تضحك وتنظر إليّ، فقد كانت على صدري، وكان الشعور الرائع قد عاد إلىَّ، ولكن إلى متى؟! كلمتنا - يونيو 2001