مهما نقرأ في كتب التاريخ فإننا لا نجد وصفا صحيحا للدولة العباسية بعد المأمون: فإن الإدارة ساءت الي درجة لا يمكن أن يقال معها: إن هناك دولة، حقا كان هناك خليفة، ولكن هذا الخليفة كان قد فقد خصائص الخلفاء حتي يصعب أن تقول: إن دولة الخلافة كانت مستمرة أوموجودة في أيام الواثق الذي خلف المعتصم الذي جاء بعد المأمون، وكان الواثق رجلا غبيا حقا، لايعرف شيئا عن إدارة الدولة، وإنما هوكان رئيس جماعة من اللصوص هم كبار موظفي الدولة، ونحن نستطيع أن نقول: إنهم كانوا بالفعل لصوصا: لأن الحد الفاصل بين السرقة والأمانة زال فعلا، فقد كان مال الدولة كثيرا، ولكنه لم يكن كثيرا حقا علي دولة: لانه كان لايكفي لإقامة مشروع كبير أومجد عظيم، ولكنه كان كثيرا علي الاشخاص الذين كانوا يتولون الدولة والحقيقة أنك لا تستطيع أن تقول: إنه كان هناك مال دولة. بل كان الناس -صغار الناس أقصد -يدفعون ماعليهم، ويأخذه جباة ضرائب يأخذون منه نصيبا لأنفسهم، ويعطون الباقي لمن فوقهم، وهكذا حتي لايصل الي الخليفة إلاسدس المال المجموع، والباقي يتوزع بين الموظفين، فهم رؤساء وهم لصوص في الوقت نفسه والخط الفاصل بين اللص ورجل الدولة في كل منهما غير واضح ويتجلي هذا في أيام المتوكل الذي جاء بعد الواثق والمتوكل اسمه جعفر، وهوابن المعتصم، وأمه أم ولد يقال له شجاع، وقد تولي يوم الاربعاء 42 منن ذي الحجة سنة 232 ه/ يوليو 717م، وكان رجلا عاقلا، وكان يمكن أن يكون خليفة ممتازا، ولكنه كان ينكر سلطان الترك علي الدولة، وفي مقدمتهم الخليفة، وكان الترك قد اعتادوا سيادة الدولة، وفي مقدمتهم الخليفة، وكان الترك قد اعتادوا سيادة الدولة حتي أصبحوا ينظرون الي أنفسهم علي أنهم أصحاب الدولة الحقيقيون، وأن العرب وغيرهم من أجناس الدولة الاسلامية كانوا رعايا لهم. وكان الخلفاء - لكي يسيطروا علي الدولة فعلا - قد استكثروا من أجنا غريبة عن العرب واتخدوا منها جندا، ومثال ذلك أننا نقرأ كثيرا عن المغاربة، وأنا شخصيا أعتقد أنني أعرف تاريخ المغرب الاسلامي معرفة لابأس بها، ولكني لا أعرف من هم المغاربة، وهنا وغاية ما أستطيع قوله إنهم بربر كانوا يهاجرون إلي العراق ويدخلون جيوش دولة الخلافة، ويعتبرون أنفسهم جندها، وكانوا يتقاضون رواتب كبيرة، ولكن لم تكن لهم طموحات ساسية، فكانوا يظلون جنودا، ويخرج أولادهم من الجيش ويتحولون الي عراقيين، ولم يكن الترك جنسا واحد بل أجناس شتي، كان يدخل فيهم الايرانيون، والطبريون، وأهل طخارستان - وهم الافغانيون اليوم -والأرمن المسلمون، وأهل القوقاز - وهم المسمون الغز - ولكنهم كانوا جميعا يتكلمون لغة واحدة، ويرون أن واجبهم الاساسي هوإخراج العرب من جند الدولة، وهذه هي نتيجة سياسة آل عباس، فقد كانوا أنصاف عرب، فمعظمهم أبناء أعجميات، وأشكالهم غيرعربية وأن كانوا يشعرون أنهم عرب، إليك صفحة من تاريخ الطبري تشعر وأنت تقرؤها أن الخيفة المتوكل عربي، ولكنه لايحب العرب، ولايريد أن يراهم في رياسة الدولة قال الطبري (9/222) في تفاصيل مقتل الخليفة المتوكل: (ذكر لي أن سبب ذلك أنه كان - المتوكل - أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهات والجبل واقطاعها الفتح بن خاقان) فكتب الكتب وصارت الي الخاتم علي أن ينفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان (سنة 742ه/ أكتوبر 168م) فبلغ ذلك وصيفا واستقر عنده الذي أمر به في أمره، وكان المتوكل قد أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه، وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يريد أن يقضي عليهم، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا، وخرج بنوهاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب، فقد كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيي والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد اجتمعوا وكثروا من أهل بيتك وغيرهم، وبعض يتظلم، وبعض طالب حاجة، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة وأن رأي أمير المؤمنيين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة..) فهل هذا خبر يستحق أن يرويه الطبري؟ يجوز إذا كان المراد بيان خضوع الخليفة لكل ماتقولة أمة الترك، المهم أننا نوي هنا أن الاتراك يريدون بأي طريقة أن يحولوا بين الخليفة وبين الناس، ولكن بقية رجال الدولة لم يكونوا أفضل من الترك ولم يكونوا كلهم عربا، بل كان فيهم أكرد وأرمن وروم، وكانوا - كما قلنا - أنصاف رجال الدولة وأنصاف لصوص. ومن حسنات المتوكل أنه أوقف بدعة الكلام في القرآن، قال اليعقوبي (2/484 -584): ونهي المتوكل الناس عن الكلام في القرآن من أهل البلدان ومن أخذ في خلافة الواثق (أي من قبض عليه) فخلاهم جميعا وكساهم، وكتب إلي الآفاق كتبا نهي عن المناظرة والجدل، فأمسك الناس، وبهدا انتهت هذه المعركة بانتصار الفقهاء، ولم يكن ذلك ليهم المتوكل كثيرا: لأنه في الواقع كان يكره الترك أكثر مما يكره الفقهاء، وكان يريد أن يقضي عليهم، فأوقف معركة ليبدأ معركة أخري كان فيها حتفه. ولم يحسن المتوكل القيام بمعركته مع الاتراك لأسباب كثيرة، أهمها سببان: الأول أنه كان صغير السن جدا: إذ كانت سنه لا تجاوز الثالثة والعشرين، فكان في الحقيقة صبيا قليل التجربة والسبب الثاني أنه لم يكن معه رجال يقومون بالمعركة، فقام بها وحده وانهزم وقتل. وبعد أن تولي بسنوات قلائل احتاج إلي أموال، ولم تكن هناك وسيلة للحصول علي أموال الا بالقبض علي موظفين كبار واستخراج ماعندهم، ووقعت عينا المتوكل علي اثنين أخوين من كبار الموظفين هما عمر بنم فرج الرخجي وأخوه محمد. والاثنان كانا محبوسين بسبب السرقة، ولكن محمد بن فرج الرخجي كان والي مصر قبل حبسه، فوجه المتوكل كتابا إلي مصر بالقبض عليه، وقبض في الوقت نفسه علي أخيه عمر، واستخرجت منهما أموال كثيرة، ثم احتاج المتوكل الي رجلين: واحد لديوان الخراج، والثاني لديوان الضياع.فلم يجد غير هذين اللصين فولاهما، وليس هذا بغريب: لانهما وإن يكونا لصين فإنهما كانايعرفان كيف يستخرجان المال من الناس. فعفا عنهما وولاهما وفي السنة نفسها وهي 432ه/ 848م قبض علي موظف يسمي أحمد بن خالد المعروف بابي الوزير، واستخرج منه أموالا كثيرة بعد التعذيب، ثم عفا عنه. ولم يرض المتوكل عن أحمد وعمر الرخجين فعزلهما وولي مكانهما يحيي بن خاقان وموسي بن عبدالملك بن هشام وكانا هما الآخران محبوسين في أموال فعفا عنهما، وولاهما ديوان الخراج وديوان الضياع. محمود الورداني