ضع نظارتك السوداء السميكة، وارتدِ أثقل معاطفك الفضفاضة، أو تأبطه. إحكم قُطر قبعتك الداكنة وإطو أطرافها، اضغطها علي رأسك بتأنِ. إدع التعامي! إخفض نبرات صوتك، وارفع ذبذبات رخامتها ما إستطعت. إبتذل مظاهر الحكمة، وإرسم كل صرامة تملكها في الملامح، بعضها يحتاج لتدريب، ومهارات شديدة الخصوصية، وافتعل كل نبوءات الحيطة، والحذر. إحسب خطواتك، ودباتها، كلها صلفة لا تراجع أو تراخ فيها، ولا يجب. إخف صليبك المعقوف، ولا تمحوه محيا، فلا ملجأ إلا له، ولا حامياً من دون اعتناقه، هو سبيل النجاة الوحيد. لن يطاردك أحد، ولن يجرؤ أحدهم علي تتبع خطواتك الُمخيفة.. الكل مؤتمر بأمره، والجحافل مؤيدة، والحشود غافلة، مُغمضة، والطوابير طويلة لا يقودها إلا أحمق، والنصر مرتقب! إدنو قليلاً من معارضيك، وأوصم كل المحيطين بالعمالة، صادر كل مطبوعة مُشككة، أو إحرقها علي رؤوس الأشهاد، فلا مُختل يملك أمامك الا الركوع. تتبع حدسك، ولا تسر وراء همهمات المغرضين، الكل خائن اذا لم يصطف خلف الوطن، وأنت الوطن.. هكذا إبتكر كذبتك، بل وصدقها، ومن يملك غير الإنصياع خلف أوامرك!! أنت هنا علي أطراف جمهورية ألمانيا الديمقراطية، علي خط وهمي رفيع علي حدود برلينالغربية، قبل إعادة توحيد الألمانيتن، حيث ركام منثور تحت الأرض، بدا من رفات مكاتب قيادات سرية كانت تقود الرايخ من جوف ألمانيا، وتقوضه. تُعيدك المنطقة إلي تاريخ أغبر، هلك كل مؤيديه، وكل من روجه، وبشَر به، وانتفع.. أنت هنا ليس إلا عميلاً خفياً لحساب البوليس السري الألماني »جيستابو». قديسة أوروبا الساكنة وأنتِ أيتها الإبنة الصادقة المستشارة البيضاء، أنغيلا ميركل الراهبة.. يا نسل قس كنائس هامبورج، وكريمة أخلص الآباء، وأزهد الكهنة، يا قديسة أوروبا المُجهدة، آن لي الخشوع علي كرسيك، ولعلي لن أفضح سرا إذا اعترفت في رحاب كهنوتك، بما يضمره أبناء قارتك. يتحدثون هنا عن أفول جزئي لشمس حزبك الديموقراطي المسيحي، بنسبة يقولون أنها تصل في بعض الأنحاء المتشددة في ألمانيا الفيدرالية، إلي نحو 30% خصماً من رصيد ثقته لدي شعبك.. ولا أسباب أفهمها بكل صدق سوي لومك علي فيض إنسانيتك، وفتح حدود ولاياتك الستة عشر أمام جموع اللاجئين الحاشدة. وآخرون يُحتمون علي ألمانيا ضرورة التبرؤ من تاريخها الأسود من ذنوب محارق بشرية، أشك في وقوعها بالشراسة المروجة، كما تُطهرين أنت بقداستك برلين من كل ذنب ارتكبته، وأزهقت به أرواح الضحايا.. ويا قداسة الأم أنغيلا، أقول لكِ بصدق وإنحناء، أن التاريخ يسمح للقادة - والأقوياء منهم فقط - بالتدخل في الجغرافيا وتغيير خرائط الدين والعرق واللغة، وخصائص السكان. وتمنح السماء للقديسات كل طرائق التوبة، والاعتراف، وتكفير الخطايا. »فانتازيا» أنا اليوم علي رصيف ميدان بوتسدام الأوسع في برلين العاصمة، في وضح الظهيرة، أتكيء علي أطلال من سور برلين، أتجرع شراباً برتقالي، إخترعه الألمان، أسموه »فانتازيا». أجاهر به للمارة من دون ارتجاف، فهكذا أثبت كامل ولائي، نافياً عني أي صحة لكل وشاية مُغرضة، تنعتني بالتآمر لصالح أمريكا، فتلقي بي في جُب بمُعتقل سياسي دفين، أو تابوت بمحرقة مؤججة. هكذا أُديرت الأوضاع أيام نازية ألماينا، عندما منعت الشركة الأم في الولاياتالمتحدةالأمريكية تصدير خامها لمشروباتها الغازية ضمن حزمة عقوبات إقتصادية فُرضت وقتها علي ألمانية هتلر، وصدرت الأوامر العسكرية الألمانية أيضاً بمنع دخول المشروبات الغازية المستوردة من أمريكا الُمحتلة، وأوشك فرع الشركة العالمية في ألمانيا علي الإفلاس، وتسريح عمالته، فابتكر ماكس كايث رئيس الشركة مشروباً وطنياً جديداً تستأثر ألمانيا بحقوق وسر إنتاجه، فخرج مشروبي البرتقالي الأشهر اليوم بعد تطور إسمه إلي »فانتا»، وهذا ما أرتشفه الآن علناً. كذلك تخرج الأفكار من رحم الإقتصاديات العسكرية الصعبة. في إعادة التوحيد وفي منطقة الكودام الشهيرة، إنتماء البقعة مفقود، لن تفرق الآن بين شقين متضادين، شرقي بوليسي تديره أجهزة إستخبارات داخلية، وتتناحر فيه أجهزة سوفيتية وأمريكية، وغربي أكثر ديموقراطية وإعتدالا. المنطقة هادئة ثرية، لا تسمع فيها همسا بعد غياب الشمس، ربما يغادرها أهلها عقب ساعات الدوام، تكاد خالية تماماً إلا من ضحكات العرب ودخان شيشاتهم، وربما بعض من سحابات دخان ثقيلة تشمُ معها رائحة فجة لاحتراق أوراق جافة من زهرة القنب الممنوعة. كودام القديمة لها جذور لا أعتقدها لينة. المتاجر هنا تعلوها علامات مُخملية لماركات تجارية ألمانية أنيقة، يروون هنا قصة إعادة توحيد الألمانيتين في أوائل التسعينيات من القرن المُنقضي، وكيف بدأت بحالات هجرة متقطعة من مواطني الشرق البوليسي المحتل من قطبي العالم روسيا شمالاً، وأمريكا جنوباً. إلي الغرب المعتدل، والمحتل أيضاً من إنجلترا شمالا، وفرنسا جنوباً. ثم تتالت موجات مشابهة، ومع كل واحدة من هذه الزخات البشرية، كانت فجوات سور برلين تتسع، حتي إختمر سخط مواطني الشرق علي الأنظمة الأمنية المتشددة في بلادهم، وإكتملت فكرة إعادة التوحيد مرة أخري.. كذلك أيضاً تُجبر الشعوب حكوماتها، والقوي المستعمرة علي إختيارها. في بيت السفير ومن هنا.. في جزيرة الزمالك، علي نيل القاهرة، بشارع برلين حيث السفارة الالمانية، ومقر اقامة السفير جيورج لوي وحرمه، وعقب رحلة للأراضي الالمانية، تصلني دعوة كريمة لحضور احتفال السفارة بذكري إعادة توحيد الالمانيتين، في 10 اكتوبر الجاري.. يؤكد خلاله السفير علي المزيد من دعم بلاده لاستثماراتها في مصر.. شكرا المانيا.