مشكلتنا اننا اعتبرنا ما حدث في أكتوبر استثناء ولم نتخذه أسلوب حياة ينبغي الالتزام به لكي نحقق ما حققناه، في اكتوبر في كل معاركنا من اجل البناء والتقدم. ربما كانت واحدة من اصعب لحظات العمر. ان يتحقق الحلم وتبدأ معركة المصير في اكتوبر المجيد.. وانت خارج الوطن!! لم يكن الامر سهلا علي من تفتح وعيه وسط لهيب المعارك علي ارض بورسعيد وهي تفتدي الوطن في حرب 1956 ثم عاش في قلب الاحداث ومصر تتلقي الطعنة الغادرة في حرب 1967 ثم تنتفض رافضة للهزيمة وطالبة للثأر وتخوض معارك الاستنزاف وتستعد للعبور قبل ان يرحل عبدالناصر وتتوقف حرب الاستنزاف وتأتي سنوات انتظار صعبة وصراعات تركت آثارها علي مستقبل مصر لسنوات طويلة.. لكن كان من فضل الله ان جيش مصر ظل بعيدا عنها وان قياداته حتي وان اختلفت توجهاتها ظلت ملتزمة بألا تشغل الجيش بمعاركها الخاصة عن معركة المصير ومهمة تحرير الارض واستعادة الكرامة التي تعلو فوق اي خلاف. في هذا المناخ شاءت الظروف ان اسافر الي »ابوظبي» مع الراحل العزيز مصطفي شردي ولتشاركنا تباعا مجموعة من ألمع شباب الصحافة المصرية في تلك الفترة ونجومها بعد ذلك في مهمة اصدار اول صحيفة تطبع في ابوظبي بصورة اسبوعية ثم يومية وهي صحيفة »الاتحاد». كانت المهمة شاقة ولكن الصحبة كانت ممتعة ورعاية الاشقاء في دولة الامارات التي شهدت مولدها بعد وصولي اليها بشهور كانت تفوق الوصف كنت مع الزملاء ونشعر اننا في مهمة قومية وكنا نشهد امامنا آثار الجريمة التي تركها الاستعمار وراءه وهو يتفرغ لنهب الثروات العربية ثم عندما يضطر للخروج بعد ما فعلته به حرب السويس يترك وراءه بلادا، عليها ان تبدأ من الصفر »بلا اي مبالغة» وان تواجه تحديات هائلة لا تستهدف فقط وجودها كدول مستقلة بل ايضا وأولا تريد لها ان تتنكر لعروبتها لتظل علي الدوام مجرد محميات لقوي اقليمية او دولية هي نفسها التي تآمرت علي مصر ووجهت لها الضربة التي ظنت انها قاتلة في حرب 67 والتي كانت مصر تجاهد للتعافي منها ولرد الصاع صاعين بعد ذلك.. من اجلها ومن اجل وطن عربي لن تقوم له قائمة الا بمصر المنصورة بإذن الله وبإرادة شعبها وقوة جيشها. لم تكن اياما سهلة.. ان تقاوم الاحساس بالغربة، وانتظار الثأر للكرامة الجريحة واصطناع الصبر في انتظار ما طال انتظاره، والمتابعة التي لا تنقطع لاخبار وطن لم ينكسر في اقسي اوقات الهزيمة في 67 ويراد له ان ينكسر بان يقبل نتائجها.. ولو بالتقسيط!! وبمتابعة الهموم الصغيرة لعائلة تاجر من خط النار الي بلادة القاهرة في ذلك الوقت وتنتظر العودة.. عودتها الي بيوتها علي ضفاف القناة، وعودة الابن المهاجر الي حضن وطن لم يتعود ابدا علي الانكسار!! البترول.. والدم!! تأتي الاخبار الاولي عن المعركة أدرك انها الحرب التي طال انتظارها. نستدعي الزملاء ويتحول موقع الصحيفة الي غرفة عمليات صحفية ثم تحول بعد ذلك الي ملتقي لمسئولين كبار في الدولة ولسفراء الدول العربية ولقادة العمل الفكري والمبدعين في الدولة الوليدة.. الكل يريد ان يتابع وان يطمئن لم تكن هناك فضائيات او وسائل اتصال حديثة. كان الحماس يختلط مع التساؤل حول تطور الامور. سهرت المدينة حتي الصباح انتظارا لشريط تليفزيوني قيل إنه يسجل عملية العبور. اذيع الشريط بعد الفجر ولم يكن يحوي الكثير فلم يكن تسجيل هذه اللحظات التاريخية ضمن اولويات تخطيط المعركة في هذه الظروف ومع ذلك فقد كان الحماس بلا حدود وكانت مواقف الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله هي الاصدق تعبيرا عن ضمير الناس في هذا الوقت الصعب والحاسم. بلا ضجيج لم يجد الرجل رصيدا ماليا كافيا في ميزانية الدولة الوليدة في ظل اسعار بترول كانت ما زالت متدنية استدان الشيخ زايد من احد البنوك بالدولة بضع مئات من الملايين لدعم دول المواجهة مصر وسوريا اساسا ومعهما الاردن وعندما اجتمعت الدول العربية المصدرة للبترول وقررت - لاول مرة - ان تفرض حظرا علي دول العدوان والدول المؤيدة لها. رأي زايد (رحمه الله) ان فرض العقوبات بالتدريج لن يؤتي ثماره، وقرر ان يكون الحظر كاملا وفوريا وان يتحمل العواقب لان البترول العربي ليس اغلي من الدم العربي كما اعلن في بيانه الشهير ليصبح البترول العربي لاول وآخر مرة حتي الان سلاحا اساسيا في معركة المصير. في انتظار النصر الجميل لم انم لأيام كنت اتابع الموقف لحظة بلحظة، واتابع اصدار الصحيفة بكل تفاصيلها وانتظر حتي آخر لحظة لاكتب افتتاحية الصحيفة التي تقف الطوابير امامها في ساعات الصباح المبكرة انتظارا لاستلام ما تستطيع المطبعة الخاصة المحدودة الامكانيات ان تطبعه وهو الامر الذي كان يقتضي ان نستمر في الطبع حتي قرب الظهيرة لكي نلبي طلبات المواطنين المتعطشين لأبناء العبور وتطورات المعركة. في ظل هذه الدوامة كان عليّ ان اتحمل عذاب البعد عن الوطن في هذه الظروف وان اتحمل ايضا ويلات القلق علي شقيق هو اغلي ما تملكه في هذه الحياة. تعرف انه وسط ضباط المقدمة في حرب استرداد الكرامة، ولا تعرف عنه شيئا الا انه سيخوض المعركة حتي النهاية، ولن يرضي الا بالنصر او الشهادة. اخرج من المطبعة بعد انجاز الصحيفة. اقف علي شاطئ الخليج العربي (ولو كره الاعداء). اعود لأستريح ساعة او ساعتين فلا استطيع اجلس لاكتب يوميات عدت فيها لقصيدة كتبها الشاعر الكبير احمد عبدالمعطي حجازي لم اجد رسالة ابعثها للشقيق المقاتل علي الجبهة الا ان كنت سليما حتي الان.. فاضرب. وإلي ان توقف القتال لم يتوقف سؤال الجميع حتي اطمأننا جميعا علي كل شيء وحتي أكد لنا الشقيق - هاتفيا - ان كل شئ بخير وانهم قد انجزوا المهمة وعبروا الهزيمة واستعادوا الارض والكرامة. أين روح أكتوبر؟! بعد اكتوبر المجيد كان العالم كله يراجع حساباته. وفي الوقت الذي كان القادة العرب يتحدثون فيه عن العرب كقوة سادسة تضاف للقوي الخمس الكبري.. كان الآخرون يستعدون للانتقام من اكتوبر وكان داهية السياسة الامريكية كيسنجر يؤكد ان سلاح البترول الذي يستخدمه العرب لن يستخدم ثانيا بأي حال من الاحوال!! وكانت كل القوي الاقليمية والدولية تتكتل لكي تضرب هذا التحالف العربي الذي حقق نصر اكتوبر!! بعد اكثر من اربعين سنة من الانتصار الكبير.. انظر حولك وتساءل: هل هذا الذي نواجهه اليوم هو ما قاتلنا من اجله في اكتوبر؟! والاجابة تعرفها - كما يعرفها الجميع - حتي من يتجاهلون منهم مواجهة الواقع الاليم. الحديث عن عالم عربي يمثل القوة السادسة الكبري في العالم كما كان البعض يردد بعد اكتوبر العظيم، انتهي الي عالم عربي نصفه مدمر او برهن التدمير ونصفه تحت التهديد وبرهن التقسيم ولولا المعجزة التي انقذت مصر من حكم الاخوان ومن براثن المؤامرة، لكان الوضع اسوأ بكثير. ويأتي اكتوبر من كل عام ونتحدث عن النصر العظيم التي حققناه نترحم علي ارواح الشهداء الابرار نجدد الفخر بجيش وطني عظيم كتب اروع صفحات المجد. نستعيد الذكريات العزيزة ونطرح السؤال الذي لا نمل من طرحه: اين ذهبت روح اكتوبر؟! ثم نتجاهل الاجابة، او نؤجل الاعتراف بها الي اكتوبر قادم من عام جديد!! تاريخنا الذي لا نعرفه!! ليس الأطفال فقط.. ولكن معظم شبابنا الواعد بكل خير ينضم إليهم في هذه المأساة، وهي الجهل بتاريخ بلاده، وعدم الإلمام بأمجد صفحاته ومن بينها مجد أكتوبر وإعجاز العبور! وتتعدد الأسباب والمأساة واحدة. مناهج سيئة، وتلاميذ يتعلمون أن »الملخصات»، هي طريق النجاح. وتعليم تاهت فيه البوصلة ولم يعد القائمون عليه يدركون أنه »ومعه الجيش»، هما الوسيلتان الأساسيتان لبناء وعي المواطن المؤمن بوحدة أبناء هذا الوطن، وبقيمة الانتماء لوطن بحجم مصر. قبل أيام كانت الصحف تنشر عن زيارة وزير التعليم لمدرسة رأي فيها التلاميذ يحيون العلم بلغة أجنبية!!. علي الوجه الآخر يسكن التطرف مدارس يتعلم الأبناء فيها أن تحية علم الوطن.. كفر وحرام!! وبين هذين النموذجين سوف تجد الكثير من النماذج التي تختلف في جودتها، ولكنها تتفق في أن دراسة التاريخ مضيعة للوقت والجهد!!.. وأن تزويره علي مقاس من يحكم هو المرض العضال الذي يحتاج للعلاج!! بالقرب من منزلي تقبع »بانوراما اكتوبر». كنت حتي قبل سنوات مضت،أجد الطوابير تقف أمامها، وعشرات السيارات تنقل تلاميذ المدارس من كل انحاء البلاد، واليوم.. لا أحد. قبل سنوات اقترحت أن يكون ديوان شاعرنا العظيم فؤاد حداد »من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة»، بين ما يدرسه أبناؤنا في المراحل الأولي من دراستهم الكتاب يعرض تاريخ القاهرة في مشاهد خلابة. كتبه الشاعر العظيم كما قال ليكون ردا علي النكسة.. وقدمته الاذاعة المصرية في حلقات لحنها الموسيقار سيد مكاوي. ويكفي ان فيها »الارض بتتكلم عربي»، وان فيها الوعد والأمل بأن »الآه» لن تطول والأرض سوف تعود والثأر سيتحقق. كتبت ذلك وأنا أعرف انهم لن يفعلوا، وأنهم سيتمسكون بالشعر السقيم الذي يقررونه في كتب لا يقرأها أحد. وإن قرأها لا يفهم.. وإن فهمها لم يكن لديه الا اللعنات علي من قرروها علي اطفال يريدون أن يغنوا وببساطة وجمال - للحياة وللوطن. أكتوبر.. ليس استثناء مشكلاتنا مع اكتوبر، أو بالأصح مشكلة اكتوبر العظيم معنا، اننا اعتبرناه حدثا استثنائيا لا يتكرر. لم يكن اكتوبر مجرد انتصار عسكري، بل كان نظاما لحياة يقود الالتزام به إلي تحقيق كل ما نصبو إليه. كان اكتوبر انتصارا للعلم علي الفهلوة أو الجهالة. كانت مراكز البحوث العلمية تضع كل جهدها في خدمة الهدف المطلوب.. وكانت أكتوبر التزاما بأقصي درجات الانضباط في كل شيء. كانت كل خطوة محسوبة، وكان كل ضابط أو جندي يعرف واجباته بل دقة. وكانت كل عملية قد تم التدريب عليها عشرات وربما مئات المرات. وكان أكتوبر درسا فيما يمكن ان تحققه وحدة أبناء الوطن وراء هدف عظيم. تحمل الشعب بكل طوائفه الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب. وتحمل أبناء مدن القناة وطأة التجهير وصعوباته. وتحملت أسر أن يبقي أبناؤها علي خطوط القتال سنوات وصلت في بعض الحالات لما يقترب من عشر سنوات. ودفع الجميع ضريبة الدم فداء للوطن وهم فخورون بأنهم يفتدون وطنا يستحق كل التضحيات. مشكلتنا اننا اعتبرنا ما حدث في أكتوبر استثناء ولم نتخذه أسلوب حياة ينبغي الالتزام به لكي نحقق ما حققناه، في اكتوبر في كل معاركنا من اجل البناء والتقدم. واذا أردنا أن نجني الثمار الحقيقية لحرب اكتوبر بكل تضحياتها. وان تذهب هذه الثمار لأصحابها الحقيقيين. أنشودة.. للحياة وسط كل الأغاني الوطنية الرائعة التي استرجعناها إلي الذاكرة الوطنية في عيد اكتوبر، افتقدت أنشودة الكابتن غزالي قائد فرقة الأرض لأغاني السمسية متعة الله بالصحة وأطال في عمره، والتي جاءت من السويس اثناء حرب الاستنزاف وسنوات الصبر الصعبة لتنشد لنا فات الكثير يا بلدنا.. ما بقاش إلا القليل والتي كانت تصور مشهد العبور المرتقب قائلا: وعضم ولادنا.. نلمه نلمه ونعمل منه مدافع.. وندافع ونجيب النصر هدية لمصر تحية للشهداء الذين افتدوا الوطن ومازالوا. وتحية للابطال الذين صنعوا النصر. وفي انتظار يوم ندرك فيه جميعا أن »أكتوبر» لابد أن يكون القاعدة التي تحكم حياتنا وليس الاستثناء الذي نحتفي به كل عام، ثم نمضي في طريق آخر. وأن ما فعلناه في أكتوبر العظيم هو ما نستطيع تحقيقه في كل يوم لو سرنا في طريق واحد هو طريق العبور واستهدفنا محطة واحدة نصلها معا هي محطة النصر.. فمتي نفعل؟!