الجمجمة بطل هذه اللوحة جمالياً ووجودياً.. هي في قبضة حفار القبور وقبضة اللوحة.. لتزداد الدلالة الفلسفية للعمل الفني أكثر من كونه مجرد تصوير لمشهد في المنظر الأول من الفصل الخامس لمشهد المقبرة في مسرحية ∀هاملت∀ لوليام شكسبير ∩1564 − 1616∪ هذه الرائعة لشكسبير كتبها بين عامي 1599−1601 عن الأمير الدنماركي ∀هاملت∀ الذي يعيش مأساة قتل عمه لأبيه الملك وزواجه من أمه والجلوس علي العرش ويتجلي في المسرحية قلقه النفسي وحيرته في مونولوجات شعرية حول الحياة والموت والوجود.. اللوحة أمامنا لفنان فرنسا الكبير يوجين ديلاكرواه رسمها عام 1839.. نشاهد في اللوحة اثنين من حفاري القبور يحفرا قبراً استعداداً لاستقبال جثمان ∀أوفيليا∀ حبيبة هاملت.. بينما وقف ∀هاملت∀ وصديقه ∀هوراشيو∀ يتطلعان إلي الجمجمة في يد الحفار.. نشاهد في مركز اللوحة والحدث كيف قبض الحفار بكف يده من داخل القبر علي جمجمة أحد موتي المقبرة وكأنه قابض علي الحقيقة.. حقيقة في غاية الإيجاز للوجود.. وكأن ذراع صانع القبور الواثقة الممدودة بالجمجمة هي ذراع تنبت جماجم.. بينما لو نظرنا إلي كفي هاملت نري كف يده اليمني مسترخية في ضمته لعباءته وكفه اليسري مدلاة في استسلام.. بالمقارنة بين كفي يد الحفار وهاملت ندرك قدر وعي كف حفار القبور بأنها قابضة علي اليقين بينما كف هاملت هي كف الحياة واهية غير واثقة.. فاليقين شد من كف يد الحفار الفقير.. وعدم اليقين أرخي كف يد هاملت الأمير.. نلاحظ موقع الجمجمة في المنطقة الوسطي تماماً بين وجه الحفار الخشن الممدود علي امتداد جسده لأعلي في عنفوان ووجه هاملت الناعم المنخفض المتجه لأسفل إلي وجه الحفار.. وما بين الوجهين يمكنك إدراك أين اليقين ؟.. حتماً ستجده في وجه الحفار الذي يتعامل مع الموت كفعل يومي من أفعال الحياة.. علي العكس من يقين هاملت الذي يتواجه والموت لأول مرة مع مقتل أبيه.. الفنان ديلاكرواه أجاد التعامل وخلفية اللوحة في رمزية عن درامية المشهد.. فنري السماء أعلي ∀هاملت∀ و∀هوراشيو∀ تسودها سُحُب مُعتمة فلا يقين لديهما.. بينما نراها تحيط برأس الحفار مُضيئة كالحقيقة التي يدركها.. مناخ المشهد يبدو شتوياً كأن هناك عاصفة علي وشك الهبوب لتنسجم عاصفة الخارج مع العاصفة التي تكاد تطيح بعقل هاملت بعد مقتل والده وزواج أمه من قاتله والتي لم يظهر ما يُعبر عما بداخله إلا من خلال وجهه الممتقع في إصفرار.. من الممتع أن نلاحظ أن هناك حفارا آخر جالسا إلي الأسفل في منتصف اللوحة تماماً إلي حافة القبر وظهره إلينا كمشاهدين.. وقد بدا كأنه يعيش حيادية موقف بين الحياة والموت.. بين رؤيتي هاملت والحفار.. ليمكث ساكناً لم نشعر طوال الوقت حتي بوجوده ليظل ناظراً إلي الجمجمة مباشرة في جلسة هادئة رافعاً أصبعه لأعلي في بلاغة تتجاوز التفاصيل أو حدوتة المشهد المسرحي نفسه.. فهذا الحفار الذي لا نراه يري كل شئ.. ويُدرك أن الموت هو الحقيقة وذلك من خلال إشارته بسبابة يده تجاه الجمجمة الحقيقة واليقين وحكمة الحياة معا.. تلك الجمجمة التي تصير آخر ما يتبقي منا بعد الموت وعلامة علي مرورنا العابر بالحياة..