تتعدد التأويلات، ويبقى «هاملت» وحده شامخا، على عرش الدراما المسرحية، فهذه الشخصية الغنية، التى كتبها وليم شكسبير منذ قرون مضت، تبقى دائما، ولا تزال نابضة بالحياة، قابلة للتطويع، فى أى دولة وأى عصر، وخاضعة لكل معالجة جديدة، وبالرغم من تعدد تقديمها، بتأويلات مختلفة، خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة. لم يتردد المخرج المسرحى الشاب مناضل عنتر، فى إعادة قراءتها، ومزجها بالواقع المصرى المعاصر، فى آخر أعماله التى قدمها، من خلال منحة مكتبة الإسكندرية تحت إشراف المايسترو هشام جبر، لإنتاج أحد أعمال وليم شكسبير هذا العام، احتفالا بمرور400 سنة على ميلاده، قدم مناضل هاملت، برؤية مغايرة تماما للرؤى السابقة، عرضت فى المرة الأولى، بمسرح مكتبة الإسكندرية، وبعد نجاحها استضاف مسرح الهناجر العرض، لمدة يومين الأسبوع الماضي. اعتدنا دائما على رؤية مفاجآت، بشخصية «هاملت» فى رحلة تناولها مسرحيا، لأكثر من مخرج، حيث سبق وأن قدمها، مركز الإبداع الفنى، فى مشروع تخرج الدفعة الثانية، من طلبة قسم الإخراج، وكل مخرج، كان مطالبا، بتقديم المسرحية برؤية جديدة، فقدمها هانى عفيفى، من خلال معاناة شاب مصرى فى «أنا هاملت»، وقدمتها المخرجة سعداء الدعاس بوجهة نظر نسوية، من خلال تقديم هاملت، بلسان أمه جرترود وحبيبته أوفيليا، ثم قدمها محمد الشافعى فى «نص ساعة هاملت»، وقام بتوزيع هذه الشخصية الثرية دراميا، على ستة أبطال فى عرض واحد، وقدمها مؤخرا، المخرج خالد جلال، فى حفل نهاية العام لجامعة المستقبل، بعرض «هاملت المليون»، على خشبة مسرح دار الأوبرا، لكن اليوم يفاجئنا مناضل عنتر بإعداد جديد، ومعالجة صادمة لشخصية وليم شكسبير، استعان فيها بنص نجيب سرور «أفكار جنونية من دفتر يوميات هاملت»، وهى بالفعل كانت معالجة، جريئة وجنونية، لا يقبل عليها سوى مخرج جرىء! جمع مناضل فى معالجته، بين التمثيل والتعبير الحركى، الذى لا يتخلى عنه، باعتباره المدير الفنى، لفرقة الرقص المسرحى الحديث، لكن لم يكن هذا وحده، هو العنصر اللافت بالعرض، وإن كان من أكثر الأشياء تميزا، بينما ما كان لافتاَ بالفعل، هى الرؤية الفنية، التى بنى عليها عنتر معالجته، لهذه الشخصية التى أثارت جدلا واسعا، ولا تزال تثير نفس الجدل بين المسرحيين، فهاملت لدى مناضل انقسم فى شخصين، شخص مراهق تافه عاجز عن القيام بفعل حقيقى، قدمه الممثل كريم أحمد رفعت، وآخر ثائر وعنيف تظن من شدة عنفه، أنه قادر على القيام، بكل جرائم القتل، التى هدد بها فى لحظات غضبه وانفعاله، قدمه الممثل طه خليفة، وبين تفاوت الشخصيتن، لعب مناضل لعبته مع هاملت، التى تحولت على يده، إلى عمل جديد، مثير إلى جدل من نوع آخر، فلم يكتف فقط، باستعراض هلاوسه واضطرابه النفسى، بسبب قتل عمه لأبيه ثم زواجه من أمه، وبالتالى أصبحت تطارده مشاعر الثأر والانتقام، طوال أحداث المسرحية، لكن تداخل مع كل هذه المشاعر، الإسقاط السياسى الذى تضمنه العرض، والذى جاء فى جمل حوراية، على لسان هاملت وهوراشيو، فى حديثهما عن الحاكم، وآفة النفاق التى تطارد الحكام من حاشيتهم، وربما كان المشهد الأبلغ تعبيرا، عن هذا المعنى، مشهد احياء بولونيوس بعد مقتله، على يد هاملت، كى يواجه هاملت بتفاهة فعلته، وقوة من هم أمثال بولونيوس، على مر العصور، باعتباره أحد جواسيس البلاط الملكى، الذين سيظلون أحياء، مهما حاربهم هاملت وأمثاله، لأنه على حد قول بولونيوس بعد مقتله.. «الأفكار لا تموت»، ومن هذا المشهد على وجه التحديد، وضح أكثر عمق تناول مناضل الدرامى، والسياسى لمسرحية هاملت، فمن هنا بدأت المسرحية تأخذ مسارا جديدا، خاصة بعد استغنائه، عن مشهد الموت الجماعى، الذى يموت فيه الجميع، بانتهاء المسرحية، واكتفى عنتر فى إعداده، بمونولوج حوارى طويل بين هاملت وهوراشيو، عندما سلمه هاملت آخر أشعاره، بعنوان «يوميات نبى مهزوم يحمل قلما، ينتظر نبيا يحمل سيفا»، ويعتبر هذا المقطع، هو الأكثر وصفا لعجز هاملت، وعدم قدرته على الفعل، الذى طارده ورواده دائما، فهو لم يستطع أن يحمل السيف، وينتظر من يأتى لحمله من بعده، إلى جانب الإسقاط الدائم، على تواكل الإنسان وتخاذله وانتظاره، لتحقيق أسطورة المهدى المنتظر، أو الفارس المغوار الذى سيخلص العالم، من الظلم والاستبداد، ويحرر البشرية من معانتها الدائمة، فهنا وكما يقول المثل الشائع.. «ضرب مناضل عصفورين بحجر»، عندما قدم النص فى قالب مسرحى راقص، بمهارته المعتادة، بجانب حداثة التناول واختلافه الشديد، من خلال الإسقاط السياسى والإنسانى الذى حمله النص، فبرغم أنه لعب، على تغيير نهاية المسرحية الأصلية، إلا أنه فى نفس الوقت، لم يخل بالنص الأصلى، وجمع بحرفية شديدة، بين شخصية المسرحية الرئيسية، ومعاناة الشاب المصرى، الذى لا تزال تحيره وتراوده، أحلام الخلاص والتغيير، لكنه لا زال عاجزا عن تحقيقها بيده فى انتظار جودو!! وكما أبدع مناضل، بإعداده المسرحى، وتناوله المختلف، لمسرحية هاملت أبدع أيضا، فى اختيار ممثليه، والذى كان على رأسهم طه خليفة بطل العرض، الذى قدم الجانب الثائر، من هاملت، وتفرد طه فى أدائه، بمهارة تمثيلية واحتراف، خاصة فى لحظات حزنه وجنونه، ولم يتخل لحظة عن قوة إيقاعه، فى أداء هذه الشخصية الموتورة، وكذلك كان مصطفى عبد الهادى، الذى لعب هوراشيو، وربما تفوق مصطفى بشكل أكبر، بأدائه الصوتى وإلقائه، بمخارج ألفاظ منضبطة، لكن كريم طه الذى لعب هاملت، فى لحظات مراهقته وعجزه، كان تكوينه الجسمانى أشد تعبيرا، من أدائه التمثيلى، فهيئته كانت أبلغ، فى التعبير عن هذا الجانب الضعيف من هاملت، بينما تفوق أحمد طارق فى دور بولونيوس، الذى استطاع أن يمزج فيه، بين الأداء الكوميدى والتراجيدى، فى نفس الوقت بمهارة واحتراف، أما أوفيليا، والتى لعبت شخصيتها، إيمان رزين، كان تعبيرها الحركى وأداؤها الراقص، أبلغ وأعمق كثيرا من أدائها التمثيلى، فقد تفوقت إيمان فى تعبيرها الجسدى، بخفة حركتها ورشاقتها وحضورها، على المسرح، وكذلك فى استيعابها، للحظات الدرامية الدقيقة، والتعبير عنها بالرقص المعاصر، لكن سقطة العمل الوحيدة، كانت فى اختيار الملك والأم جرترود، فلم تكن الممثلة وسام صبحى أو عبد العزيز محمد على، اختيارا موفقا بالمرة، لأداء شخصيتى العم والأم، فكلاهما كانا أداؤهما باهتا، وغير مؤثر على الإطلاق، كما أن الأم لم تكن موفقة، فى اختيار ملابس الشخصية، أو المكياج الخاص بها، فبدت وكأنها ترتدى ملابس «سواريه» عصرية لحضور إحدى السهرات الليلة، وليس لأداء شخصية درامية بأحد أعمال شكسبير الكلاسيكية الكبرى ..!!، قام بتصميم الإضاءة والديكور عمرو الأشرف، وأزياء مروة عودة وإعداد وإخراج مناضل عنتر. أما من أشهر ما قيل عن مسرحية هاملت، وهى الأنسب فى وصف هذه المعالجة الشيقة والمتميزة، قال جبرا إبراهيم جبرا.. «شخصية هاملت، لا تستنفد مهما تأملها المتأملون، وتبقى، حية تغرى بالتأمل، وكأن القلعة، التى عاش فيها مأساته، جمعت رموز حضارة برمتها، حضارة تعظم الفكر والتساؤل، تحس بروعة الدنيا، وجمال الإنسان، ولكنها تحس أيضا «بالأبخرة الموبوءة» التى تغزو الحياة، والغوامض الرهيبة، التى تكتنف الإنسان، ففى هذه المأساة، وضع شكسبير خلاصة، كل ما يتمناه كتاب الدراما من أساليب، ففيها تمثيلية ضمن تمثيلية، وفيها شعر ونثر، وفيها حزن وفيها ضحك، وفيها غناء، وفيها سخرية من أساليب الآخرين، وفيها جنون، وفيها ادعاء بالجنون، وفيها طيف رهيب وجماجم وانتقام، وفيها إلى ذاك كله، سحر لفظى، وفكر عميق وتأمل فى الحياة..»!!