ما حدث ويحدث في مصر من ثورة الشباب الذي يريد التغيير، شيء يفوق الخيال، وما حققوه في أيام معدودات فاق كل التوقعات. والتغيير ضرورة من ضرورات الحياة، وسمة من سمات الوجود، وفي الفلسفة اليونانية القديمة نقرأ: : إنك لاتنزل إلي النهر الواحد مرتين« بمعني أن الحياة متغيرة متموجة متقلبة، فلا شيء يبغي بصورة مستمرة، كمياه النهر دائمة التجدد والتغيير وقاريء التاريخ، يري من خلال تصفح صفحات هذا التاريخ أن من غيروا الدنيا في مختلف المجالات في العلم والأدب والفلسفة والفتوحات من الشباب، فالشباب قوة متدفقة تتجه بكل كيانها إلي رؤية أكثر استنارة للمستقبل، وأكثر حركة وحيوية نحو الغد. ولو رجعنا إلي أيام ظهور الاسلام، لرأينا أن أول من آمن بهذه الرسالة الخالدة، ورفع رايتها عالية، وتحدي سلف كفار مكة وسفهائها كانوا من الشباب، وكان النبي عليه الصلامة والسلام نفسه في السن الذي اكتمل فيه شبابه في سن الأربعين، أما أتباعه فكانوا من الشباب الذين أرادوا أن يغيروا واقع الحياة، وأن يرفعوا من شأن العقل، فلا يسجدون لأصنام صماء بكاء عمياء لاتنفع ولاتضر، ولايتعلقون باعتقاد الشيوخ الذين أصروا علي اعتقاد ما كان يعتقد الأباء والأجداد، بل أن هؤلاء الشباب من المسلمين الذين لاذوا في دار الأرقم ابن أبي الأرقم أحد شباب المسلمين، هم الذين خرجوا ليعلنوا الاسلام واعتناقهم له جهرة وينهوا فترة دعوة الاسلام السرية، عندما خرج المسلمون من دار الأرقم بن أبي الأرقام في حنين، يقود أحدهما عمربن الخطاب، ويقود الصف الثاني الحمزة بن عبدالمطلب وكلاهما من شباب الاسلام الذين لم يبالوا في سبيل ايمانهم بأي شيء مهما كانت الصعوبات، ومهما كانت المخاطر. ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام عن الشباب: »أوصيكم بالشباب حيزا، فانهم أرق أفئدة.. إن الله بعثني بشبرا ونذيرا، فحالفني الشبان، وخالفني الشيوخ، ثم قرأ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم«.
وفي كتاب (شباب قريش في بدء الاسلام) لعبدالمتعال الصعيدي، يحدثنا عن دور الشباب في بدء الرسالة الاسلامية الخالدة، وأنهم هم الذين حملوا لواء الدعوة، وعانوا في سبيلها ما عانوا، حتي تحقق النصر للاسلام وهزموا امبراطوريتي الفرس والروم. ويقول أنه قد ثبت في علم الاجتماع الحديث أن الشباب أنصار كل جديد، لأنهم لم يألفوا القديم إلف الشيوخ له، فيسهل عليهم قبول الدعوة الجديدة، ولا ينفرون منها كما ينفر آباؤهم وذوا السن فيهم ولقد سبق القرآن الكريم علم الاجتماع الحديث إلي تقرير هذا الأصل، وكم في القرآن من عجائب العلم والمعرفة، لأنه لاتنفذ عجائبه، ولاتنتهي غرائبه، وهذا من أكبر الأدلة علي أنه من عند الله تعالي، لأن هذه العجائب لاتنقد، وهذه الغرائب لاتنتهي، لايمكن أن تكون من البشر، وإنما هي من الله الذي أحاط بكل شيء علما، فأودع من أسرار علمه في هذا الكتاب العظيم، ما أودع، ليكون من أكبر الأدلة علي أنه ليس من تأليف البشر. وهذا الأصل الذي ثبت في علم الاجتماع الحديث قد جاء في كلمة واحدة من القرآن الكريم، دلالة علي إعجازه، وبرهانا علي أنه لايمكن أحدا أن يأتي بمثله، إذ تحوي الكلمة الواحدة منه من العلم ما يكفي لتزليف كتاب، ومثل هذا لايوجد في كتاب منزل أو غير منزل وهذه الآية قد وردت في الآية 38 من سورة يونس: فما آمن لموسي إلا ذرية من قومه علي خوف من فرعون وملايهم أن يفتنهم، إن فرعون لعمال في الأرض وإنه لمن المسرقين«.
وهذه الآية تفيد أن من آمن بموسي هم الشباب، فقد جاء في هذه الآية كلمة تشير إلي ذلك الأصل، وهي كلمة ذرية، لأن الذرية الولد والنسل، مأخوذة من الذر وهو صغار النمل، فتفيد هذه الكلمة أنه لم يؤمن بموسي إلا أولادهم، وهم صغارهم وشبابهم من فتيان وفتيات، وهذا لأنه يدعو بدعوة جديدة، فبادر الشباب إلي الإيمان بها، لأنهم أنصار كل جديد، وأبي الشيوخ أن يؤمنوا بها، لأنهم يجمدون علي القديم، وينفرون من كل جديد«.
وتروي كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام، عندما أمر بأن ينشر الدعوة، واجتمع في أول الأمر، بأقاربه، عندما نزل قوله تعالي: : وأنذر عشيرتك الأقربين« وقال لهم: : بابن عبدالمطلب.. إني والله ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، جئتكم بكلمتين خفيفتين علي اللسان، ثقيلتين في الميزان: شهادة أن لا اله الا الله، وأني رسول الله«. فالنبي تحدث إليهم كشاب جاء بالهدي ليؤمن الناس بالدعوة التي ينادي بها، دعوة الاسلام، والإيمان بما فيه من قيم وعقائد ومباديء وفضائل. لقد كان أصحاب الرسول التي قامت علي اكتافهم الدعوة إذن من الشباب، وهم الذين غيروا مسار البشرية كلها، يوم انتصرت هذه الدعوة، وأخضعت لها شبه الجزيرة العربية، ثم انطلقت خارج الجزيرة العربية لتحطم الامبراطورية الرومانية والفارسية، وتنشر أنوار الاسلام وحضارته إلي أماكن لم تكن تخطر علي البال، ويكفي أن هذه الدعوة وبعد سنوات قليلة كانت تمتد من تخوم الصين، حتي بلاد الأندلس في قلب أوربا. مرورا بالشمال الافريقي كله.
وتمضي الأيام.. وبعد الخلافة الراشدة، تأتي خلافة بني أمية، ونري كيف امتدت رقعة الفتوحات الاسلامية امتدادا لايمكن أن يتصوره عقل، وتمتد هذه الفتوحات من تخوم الصين حتي الأندلس في قلب أوربا، ومن خلال وهج هذه الانتصارات، تعرف أن الكثير من قادة هذه الفتوحات من الشباب، بل أن فاتح الهند محمدبن القاسم الثقفي لم يكن قد وصل إلي العشرين من عمره، وقد شجعه علي هذا الفتح الحجاج بن يوسف الثقفي - ابن عمه - وقد أمده بجبش يبلغ تعداده ستة آلاف جندي بجانب ما معه من جنود، وأصبح جيشه قرابة العشرين ألفا، وبهذا الجيش استطاع هذا البطل الشاب أن يحقق انتصارات مذهلة ويفتح بلاد السند سنة 98ه. وقد نشر هذا البطل الشاب قيم الاسلام ومبادئه وعقائده في الهند، فدخل العدد الكبير منهم في الاسلام، لما لمسوه في هذا الفاتح العظيم من الاستقامة والعدل، ويروي البلادري أن أهل هذه البلاد حزنوا عليه عند وفاته وأقاموا له التماثيل.
ويذكر لنا التاريخ أن الدولة الأموية عندما سقطت علي يد العباسيين، وكان وراء النجاح الهائل للعباسيين، بطل شباب اسمه أبوسلم الخراساني، فقد مهد للدعوة العباسية في خراسان، وجمع الأنصار والأعوان، حتي استطاع أن يدخل مدينة (مرو) واستولي علي حمدان، ونهاوند، وحلوان، وخاففين وتحقق له النصر الذي مهد لقيام الدولة العباسية عندما قتل أخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد« عندما هرب إلي مصر وقفل علي يد صالح بن علي ابن عبدالله بن عباس) في ذي الحجة 231ه.
والشباب هم الذين قادوا بلادهم إلي مكانة رفيعة فكانوا قادة في مختلف مجالات الحياة، فنحن نعرف أن (ميرابو) الذي أشعل الثورة الفرنسية ببلاغته وخطبة العبقرية، وهو القائل عندما طلب ملك فرنسا أن بعض البرلمان، فقال لرسول الملك. : اذهب وكل لمولاك إننا هناك بإرادة الشعب، ولن نبرح مكاننا إلا علي أسنة الرماح«. وهذا الرجل الرجل الذي ألهب بشاعة الثورة الفرنسية انتخبته الجمعية الوطنية رئيسا لها في بناء 1971، وفارق الحياة في الثاني من ابريل عام 1971 وكان أول من دفن من العظماء في البانتيون وقال عنه محمد صبري أبوعلم: : وقد قيل عنه إنه قسم حياته شطرين، شطرا للهدي وشطرا للثورة، فكانت حياته ثورتين، ثورة للشباب، وثورة للحرية، فقضي حياته كلها ثائرا«. وصفوف العباقرة من الشباب في مختلف المجالات طويل علي مر العصور، ويكفي أن نشير هنا في مصر إلي الزعيم الشاب مصطفي كامل، وهو صاحب الكلمة الخالدة التي أو جزبها رسالته في الحياة. : أريد أن أوقظ مصر الهرمة مصر الفتاة«. وهو كما يقول عنه الأديب أنور أحمد: شاب نحيل الجسم، شبوب العاطفة، مضطرم الخيال، يحلم بتحرير بلاده من الاحتلال الأجنبي، فيهب وحده بغير حزب يؤيده، أو جاه يسنده، أو مال يعتمد عليه، يصرخ في وجه أعظم امبراطورية لاتغيب عن أملاكها الشمس مطالبا بحقوق بلاده، فيفيق مواطنوه في دهشة علي هذا الصوت الذي ارتفع بينهم، وكأنه هو صوت المؤذن يسري في هدأة الفجر يوقظ النيام، ويعث في النفوس الأمل، فتشتعل من جديد جذوة الوطنية في القلوب الهامدة، ثم يقضي في عمر الزهور، وقد بعث في قومه نهضة جديدة، وترك وراءه حزبا فتيا يحمل رسالته، وشعبا قويا يطالب بحقه في الحرية والاستقلال.. هذا هو الزعيم الشاب مصطفي كامل الذي نهرا في فترة مظلمة من أتعس فترات التاريخ المصري الحديث، بعد فشل الثورة العرابية، واحتلال بريطانيا لمصر، فكانت حياته القصيرة ارهاصا بهذا البعث الجديد لشعب كاد يدركه اليأس، وعندما مات مصطفي كامل كان في الرابعة والثلاثين من عمره، كانت تربة مصر تحتضن البذور التي ألقاها وتقهرها بكافحه الرائع، لتنمو بعد ذلك وتتمخض عن ثورة الشعب الكبري بعد أحد عشر عاما من وفاته..«