ما أجمل رمضان بلا برامج ¢توك شو¢ أو مقالب ممجوجة أو مسلسلات فارغة لا نتاج لها إلا خدش الحياء وهدم القيم ونسف منظومة الأخلاق التي بنتها أمتنا علي مدي قرون وقرون ولا تزال الدولة تسعي جاهدة لإعادتها إلي وجهها المشرق ونبعها الصافي الخالي من كل كدر ومن كل شائبة. توقعت منذ فترة ليست بعيدة بما ستؤول إليه أحوال برامج التوك شو وعزوف الناس عن مشاهدتها وانصرافهم إلي غيرها ..وتساءلت وقتها: هل تراجعت برامج التوك شو وفقدت مصداقيتها لكثرة سقطاتها وإسفافها لدرجة لم تعد مقبولة أم لضعف مذيعيها وتضخم ذوات بعضهم وتلونهم واهتمامهم بقضايا أبعد ما تكون عن اهتمامات المواطن وهموم الوطن الحقيقية ..وهل ستتحول القنوات الفضائية والتليفزيونية ب¢التوك شو¢ إلي موضوعات ترفيهية. وبرامج رياضية ومنوعات وطبيخ حتي تستطيع تلك القنوات الحفاظ علي ما تبقي لها من مصداقية ومشاهدين بعد تدني نسب مشاهدتها وتراجع إيراداتها و تدهور أحوالها المالية بصورة غير مسبوقة..لكن السؤال الذي يطرح نفسه في ظروف كهذه :لماذا يصر أصحاب الفضائيات علي الإبقاء عليها رغم خسارتها المحققة والتي تزداد عاماً بعد الآخر..ومن أين يعوضون تلك الخسارة ..وما أهدافهم الحقيقية من وراء تمويل تلك الفضائيات ..أهي الرغبة في حماية رءوس أموالهم بصوت الإعلام الزاعق..أم يداعبهم الأمل في عودة الجمهور إلي تلك القنوات من جديد..؟! لابد هنا أن نعترف بأن ¢التوك شو¢ قد تغلغل بقوة في نسيج الوعي المجتمعي بعد أحداث يناير 2011 بل لا نبالغ إذا قلنا إنه صار -وقتها- لاعباً رئيسياً في تعبئة الجماهير والتحكم في بوصلة الرأي العام الذي ظل يصارع أمواج السياسة وتحولاتها وفراغ ساحتها من الأحزاب السياسية الراشدة حتي وقع ما وقع من الاستقطاب الحاد والتخوين والانقسام والتشكيك في أي شيء وكل شيء ..بعضها انطلق بعشوائية وبعضها لخدمة أجندات داخلية وخارجية..ولم يزاحم تلك البرامج وقتها علي العقول إلا مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية التي شكلت هي الأخري رافدا لا يستهان به في توجيه الناس وصناعة توجهاتهم وقناعاتهم السياسية والاجتماعية جنباً إلي جنب الدراما التي تُركت هي الأخري وقتها في أيدي القطاع الخاص ورأس المال ليحدث في العقول ما أحدثه حتي وصلنا لما نحن فيه اليوم. وبدلاً من أن يضطلع إعلام التوك شو بدوره الوطني الواجب في تلك الأوقات العصيبة بتوعية المواطنين وتبصيرهم بالأولويات والشواغل الواجبة وجدناه للأسف وقد خلت أجندته من تلك الغايات النبيلة . تاركاً لنفسه العنان في المنافسة للاستئثار بأعلي نسب المشاهدة وجني ثمار الإعلانات علي حساب قيم المهنة ومصالح البلاد والعباد. وبدلاً من أن ينشط ذلك الإعلام ليسد فراغ السياسة ويعوض غيبة الدولة في سنوات ما بعد يناير 2011 وينشط الذاكرة الوطنية بالأمجاد القومية والأيام التاريخية وجدناه وقد غرق في الجدل حول توافه الأمور. عشوائياً بلا جدول أعمال ولا بوصلة وطنية لإنقاذ سفينة الوطن التي كانت تواجه أمواجاً عاتية وأنواء عاصفة هبّت عليه من كل مكان في ذلك الوقت العصيب. رغبة في إضعافها وتركيعها وإخراجها من معادلات القوة والتأثير في مصير إقليمها المضطرب. حمي التوك شو التي اجتاحت الفضائيات غداة أحداث يناير لم تلتزم بأي ميثاق شرف إعلامي ولا بتقاليد المهنة العريقة بل إنها نهشت الخصوصيات بلا رحمة ولا رادع من ضمير أو وازع من أخلاق. وخاضت معارك التضليل والتشويه فكانت النتيجة تشويهاً للوعي وانحرافاً لبوصلته أفضي لنتائج مأساوية في السياسة والاقتصاد وكل شيء» الأمر الذي دفع المجتمع وقتها للمطالبة بوقف هذه المهزلة و تعجيل إصدار قوانين الإعلام المتوافقة مع الدستور لضبط المنظومة الإعلامية حتي تستعيد وجهها المضيء ومصداقيتها المفقودة. وحتي لا يصبح إعلامياً كل من هبّ ودبّ. ومع أن المشاهد قد هجر برامج التوك شو في الآونة الأخيرة لخلوها مما يروق له أو يساير اهتماماته فلابد أن نتصارح بأن تلك النوعية من البرامج كانت سبباً في تعكير أجواء ما بعد يناير. ولم تضبط يوماً مدافعة عن الدولة أو المواطن بل كان أغلبها مواقد أشعلت فتيل الأزمات و كرست لحالة انقسام وجدل وفرقة وعنف لم تشهد مصر مثيلاً لها علي مدي تاريخها كله وهو ما عرض النسيج الوطني لخطر التفسخ والشقاق لدرجة أن المصريين وقتها ضاقت صدورهم بالاختلاف وضاعت بينهم فضيلة قبول الرأي والرأي الآخر وظهرت بوادر احتقان اجتماعي وشروخ وتصدعات بين مكونات المجتمع وفئاته المختلفة والتي لولا لطف الله لوصلت بنا إلي طريق اللاعودة. ولم يكن ذلك كله ليحدث لولا هذا الإعلام المحرض والمشحون الذي لا تزال مصر تعاني تبعاته الأليمة. والذي لم يتورع حينها عن نفاق نخب ووجوه أكلت علي كل الموائد وفعلت الشيء ونقيضه. وأجادت لعبة التحول والتلون والنفاق والموالاة خدمة لمصالحها الضيقة. ورغم اختفاء بعض أو كثير من هذه الوجوه وابتعادها عن الشاشات.. لكن هناك للأسف من لا يزال يرتدي الأقنعة ويمارس الدور نفسه بسماجة وتنطع لا حدود لهما حتي صدق نفسه. كم يرجو الناس لو عاد إعلامنا تنموياً يناقش بموضوعية وتجرد واحترافية شواغلنا الوطنية والقومية وواجبات الوقت وهمومه الحقيقية وما تتطلبه مرحلة البناء والبقاء..إعلاماً يتسلح بالعلم والضمير الوطني وأدوات العصر والتأهيل المطلوب ومهارات الاتصال وكفاءة التأثير والقدرة علي مساندة الدولة في حربها ضد الإرهاب والفكر المتطرف قبل المواجهة الأمنية التي هي من الأهمية بمكان فضلا استئصال شأفة الفساد والاهمال ومعوقات النجاح والتطور..إعلاماً للخدمة وليس إعلام السلعة ..إعلام ما ينبغي أن يقدم للناس وليس إعلام ما يطلبه المستمعون أو ¢ الجمهور عايز كده¢ ..إعلاماً يبني منظومة تفكير ووعي وعقل جمعي لا يقبل كل ما يلقي إليه من أخبار وشائعات وفبركات إعلامية هدفها التشويش والإحباط ..إعلاماً لا سلطان عليه إلا ضميره وميثاق شرفه ومصالح وطنه يلبي احتياجات مجتمعه ويساير تطورات عصره وتحولاته الكبري..إعلاماً يتبني قضايا مهمة مثل تحويل القيم السلبية كالتواكل والإسراف والدجل إلي قيم إيجابية تسهم في تحقيق التنمية الحقيقية للوطن..إعلاما يعبر بنا إلي المستقبل ويعبِّر بصدق عن نبض الشارع. لا يكتفي بنقل ما يستجد من أخبار وتحليلات عن مصادر قد تتعارض توجهاتها مع خياراتنا ومصالحنا بل يكون صانعاً لتلك الأخبار والتحليلات وفق منهج علمي يناصر قضايانا ويشحذ هممنا و يبصرنا بمواطن الضعف والقصور والخلل ويحافظ علي قيمنا وتقاليدنا وأخلاقنا وثوابتنا الوطنية والقومية لا أن يتسبب في ضياعها أو تحللها. * إعادة ترتيب البيت الإعلامي من الداخل صارت ضرورة لا غني عنها لتجاوز أمراض المهنة وإنقاذها من التردي والانحطاط..فالإعلام أحد مقومات الأمن القومي ودائماً ما يسبق الإعلام الجيوش في أرض المعارك وفي تهيئة الشارع لتقبل أي قرارات اقتصادية أو سياسية مهمة..كما أنه يصوغ الرأي العام ويصونه من محاولات التشويش والتضليل والاستهداف المنظم بالشائعات والافتراءات التي هي إحدي أدوات حروب الجيل الرابع والخامس. * ويبقي أخيراً أن المشاهد أو المتلقي قد عاقب برامج التوك بمقاطعتها والانصراف عنها حين أحس أنها لا تعبر عنه ولا تشعر به ولا تتبني قضاياه وهمومه ..وتركها سائرة في غيها لتسقط في هوة عميقة من التردي والتراجع المدوي بعد الذي أصابها من انفلات صارخ في كل شيء في المحتوي ولغة الخطاب وطريقة التناول حتي باتت تلك البرامج علي شفا الهاوية تماماً. وأخشي ما أخشاه أن تلقي الأعمال الدرامية المصير ذاته إذا ظلت علي نهجها المتهافت وبنائها المتهاوي وتكريسها للعنف والرذائل ومخاصمتها للعلم والأخلاق وصناعة القدوة الحسنة أو القيم النبيلة لتخسر مصر بفقدانها أحد أهم روافد قوتها الناعمة التي تسيدت بها في محيطها العربي عقوداً وعقوداً وكانت ملء السمع والبصر في كل مكان..نتمني أن تسارع الجهات المعنية بصناعة العقل والوعي بمد يد العون والإنقاذ للإعلام بشتي صنوفه حتي نأمن علي حاضرنا ومستقبلنا ونستعيد زمام المبادرة والتأثير وتوجيه العقل المصري نحو وجهته المأمولة.