* برامج التوك في مصر ليست بدعاً. فقد عرفتها دول قبلنا لكنها لم تشهد مثل هذا التراجع المدوي الذي أصابها في مصر. ذلك أن أحداث يناير وما صحبها من انفلات ضرب كل شيء عندنا وطفحت برامج التو شو بالصخب السياسي الذي بلغ حد التطاول والتشاحن والمكايدة السياسية وتصفية الحسابات علي الهواء مباشرة ومغازلة شباب يناير ..تجاوزت برامج التوك شو كل حد ..تكلمت في المسموح والممنوع ..ونصّب كل ضيوفها ومقدميها من أنفسهم خبراء استراتيجيين ونشطاء سياسيين ينتمي بعضهم لائتلافات بلغت من الكثرة حداً لا تحصيه ذاكرة المصريين الذين تشبعت ذاكرتهم بحديث السياسة حتي زهدوها وملوها وانصرفوا إلي غيرها حتي باتت تلك البرامج علي شفا النهاية تماما كما هي حال الصحافة الورقية التي تعاني مشاكل جمة حتي باتت تنتظر رصاصة الرحمة في ظل ظروف اقتصادية وسياسية ومهنية بالغة الصعوبة والتعقيد.. ولم نر من أصحابها ولا القائمين عليها ما يشير إلي أن أحداً بات يهمه أمر بقاء هذه الصناعة. فضلاً علي انتعاشها وازدهارها من جديد. والسؤال :لماذا تراجعت برامج التوك شو وفقدت مصداقيتها.. أهي كثرة سقطاتها وإسفافها لدرجة لم تعد مقبولة أم لضعف مذيعيها وتضخم ذوات بعضهم وتلونهم وأكلهم علي كل الموائد وانصرافهم عن قضايا المواطن وهموم الوطن الحقيقية ..وما أكثرها اليوم ..والإجابة تنقلنا حتماً إلي سؤال آخر: هل يختفي التوك شو تاركاً مكانه للبرامج الرياضية والمنوعات والطبيخ والمسلسلات والأفلام والمقالب . ثمة محاولات تجري لإعادة ترتيب البيت الإعلامي من الداخل وفي القلب منه برامج التوك شو ..فهل تسفر تلك المحاولات عن إصلاح حقيقي وتوازن ملموس فيما يقدم علي الشاشات حتي يستعيد الإعلام دوره الحقيقي في التنوير والتثقيف والتوعية. ويتطهر من خطاياه وأخطائه التي كثرت وعمت..وهل تشهد الفترة المقبلة ضخ دماء أو وجوه جديدة قادرة علي إعادة صياغة المشهد الإعلامي بقوة ومصداقية أم يجري الاكتفاء بنقل مذيعين من فضائية لأخري وتغيير أسماء البرامج وشكلها دون تغيير حقيقي في المضمون والغايات مثلما رأينا فيما جري من صفقات في الفترة الأخيرة. الفضائيات ليس أمامها إلا الحفاظ علي ما بقي لها من مصداقية ومشاهدين بعد تدني نسب المشاهدة وتدهور أحوالها المالية وتراجع إيراداتها بصورة فادحة ..الأمر الذي يطرح سؤالاً مهماً..مادامت الفضائيات مشروعا خاسرا وعبئاً اقتصادياً ثقيلاً فلماذا يبقي عليها أصحابها..وكيف يعوضون هذه االخسارة ..وما أهدافهم من وراء استمرار هذه الفضائيات..أهي وسيلة لحماية رأس المال بالصوت الإعلامي الزاغق..أم لممارسة الابتزاز وتحصين المال..وما أجندات عمل برامج التوك شو داخلياً وخارجياً.. ؟! فراغ الساحة السياسية من الساسة والأحزاب الحقيقية بعد أحداث يناير أدي إلي ظهور برامج التو شو التي مارست دوراً غير دورها.وصارت لاعباً رئيسياً في تعبئة الجماهير وتوجيههم واجتاحتها حمي الانفلات والتطرف في الرأي لدرجة أشعلت نار الاستقطاب والتخوين والانقسام والتشكيك في أي شيء وكل شيء ..بعضها انطلق بعشوائية وبعضها لخدمة أجندات داخلية وخارجية..ثم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتزاحم الإعلام علي عقول المشاهدين ..ووقفت الحكومة والبرلمان متفرجين فلم يحاولا تعويض هذا الغياب وتمتين حبال التواصل مع المواطنين الذين لم يجدوا مفراً من الالتفاف حول تلك البرامج . وليت الإعلام استثمر هذا الفراغ للتأثير في عقول الناس بما ينفع الوطن والمواطن ويثير قضايا المرحلة وأولوياتها الواجبة للتوعية بمخاطر الصراعات التي سيقت إليها المنطقة والمؤامرات التي حيكت للإيقاع بدولها في أتون الفوضي والتناحر والتقسيم الذي رسم بعناية فائقة من الاستعمار الجديد ..لكن الإعلام للأسف أعمته المصالح الضيقة والرغبة في زيادة نسب المشاهدة وجني ثمرات الإعلانات عن المصالح العليا للبلاد والتي كانت تقتضي منه تحليل ما يجري بهدوء وعقلانية بعيداً عن التعصب والتشنج والهوي وتنشيط الذاكرة القومية بالأمجاد التاريخية التي تسهم في رفع الروح المعنوية وتقوية الجبهة الداخلية وتوحيد الصف الوطني..فوجدنا إعلاماً سادراً في الغي عشوائياً بلا جدول أعمال ولا بوصلة وطنية لإنقاذ سفينة البلاد من أمواج عاتية وأنواء عاصفة تأتيها من كل مكان لإضعافها وكسر شوكتها وإخراجها من معادلة القوة والتأثير في محيطها الإقليمي والدولي. التوك شو بدا كحمي ضربت الفضائيات بلا هوادة فلم يأبه بتقاليد المهنة ولا بميثاق شرفها ونهش الخصوصيات وخاض معارك التشويه واغتيال السمعة والتضليل فكانت النتيجة كارثية في السياسة والاقتصاد والأخلاق والمجتمع وجاءت تشويهاً للوعي وتشويشا للرأي العام وحرفاً لبوصلته عن الوجهة المثلي. أما آن الأوان لهذه المهزلة أن تتوقف وأن يستعيد الإعلام قيمه ودوره الحضاري بعيداً عن سيطرة أصحاب المال والنفوذ..صحيح أن الدولة بادرت بإصدار قوانين الإعلام والصحافة المتوافقة مع الدستور ..لكن نقابتي الصحفيين والإعلاميين لا تزالان في حاجة لقوانين جديدة تضع مزيداً من الضوابط لتنظيم الالتحاق بهما ومنع الجمع بين عضوية نقابتين في وقت واحد أو أن يعمل صحفي مذيعاً أو العكس وأن تعطي الأولوية لخريجي الإعلام حتي تتحقق المهنية الرصينة ويعود للإعلام وجهه المضيء ومصداقيته المفقودة وحتي لا يصبح كل من هب ودبّ إعلاميا أو صحفياً..ناهيك عن ضرورة منع تعارض المصالح والجمع بين مناصب داخل المؤسسات الصحفية والإعلامية ومناصب أخري داخل النقابتين حتي تستقيم الأمور ولا نجد الحكم خصماً وحتي يتفرغ النقابيون للدفاع عن قضايا زملائهم والمهنة معاً.. هناك ضرورة قصوي لإصدار قانون تداول المعلومات حتي نقطع دابر الشائعات التي تعمل آلتها بكفاءة في ظل غياب المعلومات والتأخر في نشرها. لنكن صرحاء مع أنفسنا ونعترف بأن برامج التوك شو لم تكن يوماً ظهيراً للدولة ولا مدافعاً عن أحلام البسطاء بالصورة المرجوة ..صحيح أنها وقفت ضد الإخوان وناصرت ثورة 30 يونيو بعدما تأكد انحياز الجيش للشعب الذي خرجت ملايين للشوارع لإسقاط حكم الجماعة ومرشدها ..كما أن الإعلام وخصوصاً برامج التوك شو كان أغلبها مشحونا ومحرضاً ومواقد أشعلت الجدل والانقسام وغذت العنف بين فئات المجتمع وأطيافه السياسية وذلك أثناء أحداث يناير و30 يونيو.وهو ما أنتج شروخاً وصدوعا اجتماعية لم نعهدها من قبل,وأحسبها لم تلتئم حتي اليوم وسوف تعاني منها مصر كثيراً رغم ما يجري الآن من محاولات لتوحيد الخطاب الإعلامي ورسالته ودخول معارضة وطنية بناءة. التاريخ سوف يسجل كيف نافق هذا الإعلام نخباً ووجوهاً أكلت علي كل الموائد وفعلت الشيء ونقيضه. وأجادت لعبة التحول والنفاق خدمة لمصالح أصحاب المال والنفوذ ..وكيف كان هذا الإعلام يوماً بوقاً لمبارك ونظامه وحزبه ثم انتقل لمربع الإخوان وحزبهم أيضاً..ثم عاد يداهن أهل الحكم بعد زوال الإخوان من المشهد..فهل ننتظر من إعلام كهذا أن يثق الناس فيه وفي هؤلاء المتلونين سواء من النخب أو من مقدمي برامج التوك شو والذين كانوا سببا من أسباب عزوف الجمهور عن التوك شو الذي أغرق الناس في الحيرة والبلبلة حين راوح مكانه بين السياسة والدين وتجار المصالح و الثوار الأنقياء ونشطاء السبوبة ..بين فلول الوطني وفلول الإخوان ..بين من امتلكوا كل شيء ولم يقنعوا بشيء ولا قدموا للوطن أي شيء ولا رضوا بشيء بل نقموا علي كل شيء ولم يعودوا يأبهون بشيء. التوك شو في كل الدنيا عين علي قضايا الأمة وأولوياتها يضع يده علي مواطن الداء ويشخص العلة ويصف الدواء ويعري الفساد والمفسدين لكنه عندنا كان مجرد شو إعلامي تغافل عن هموم الوطن وشواغل المواطن ..وأغفل التعليم والصحة والشباب وهجرتهم للخارج وانجرافهم أمام تيار الإدمان والمخدرات والتطرف والإلحاد والعنف وعزوفهم عن المشاركة في الشئون العامة وتفرغ للدجل والشعوذة والخرافة والتفاهة ..وخاض في الأعراض وهتك الخصوصيات وتغييب العقول وطمس الضمائر. أغرق الإعلام وخصوصاً التوك شو في المحلية والقضايا الهامشية أو الخلافية علي أحسن تقدير ولم يكن عيناً علي الأحداث ليضع المشاهد علي عتبة ما يجري حوله هنا وهناك وما يراد بأمتنا العربية التي تعثرت أقدامها فيما عرف بالربيع العربي الذي بات خريفا عاصفاً أضاع كثيراً من فرص التنمية و التطور. يحدونا أمل عريض أن تثمر جهود إعادة ترتيب البيت التي تجري الآن عن نتائج إيجابية في صالح الإعلام والمواطن والدولة معاً ..لنجد إعلاما تنموياً يناقش بموضوعية شواغلنا الوطنية والقومية وواجبات الوقت وما تستلزمه مرحلة البناء والبقاء ..إعلام يتسلح بالعلم والضمير الوطني والمهنية في مساندة الدولة والتحريض علي التفكير والعمل والإنتاج والعلم ومكافحة الإرهاب والقضاء علي الفساد والإهمال ..إعلام الخدمة لا إعلام السلعة الذي يوالي من يدفع أكثر ولا يصب إلا في صالح الأعداء بقصد أو دون قصد. لا نملك ترف إضاعة الوقت في نقاش بيزنطي يطرح قضايا لا تفيد الوطن ولا المواطن في شيء ..فكيف تناقش برامج التوك شو مثلاً من وقت لآخر فكرة المصالحة مع جماعة الإخوان الإرهابية وهي الفكرة المرفوضة من الشعب أصلاً ..أليس حرياً بهذا الإعلام أن يعرض مخاطر الإخوان وجرائمهم وما تتسبب فيه أكاذيبهم وافتراءاتهم وشائعاتهم من إيذاء لمصر وصورتها في الخارج. ربما يبدو صعباً أن تعثر علي قواسم وطنية مشتركة بين القنوات الفضائية مجتمعة فلم نجد مثلاً برامج أو حتي فقرات فكرية تعالج التطرف والإرهاب أو كيفية إدماج أطفال الشوارع في المجتمع أو تعرض بموضوعية أسباب الغلاء غير المبرر لبعض السلع وكيفية القضاء عليه أو تبحث في أسباب العنف الأسري أو شيوع بعض القيم أو السلوكيات السلبية في المجتمع مثل التواكل والأنامالية والاستسلام للخرافة والدجل وكيفية تحويلها لقيم إيجابية تبني الوطن بناء حقيقياً. ما نجده من قواسم مشتركة بين هذه القنوات هي للأسف قواسم سلبية. وأهمها غياب الموضوعية والمعايير المهنية المعتبرة عالمياً والانشغال بتصفية الحسابات وإثبات الوجود والارتداد للماضي والإغراق في المحلية ومخاصمة المستقبل ومجافاة روح العلم وتكرار نفس الموضوعات ونفس الوجوه التي لا تعبر إلا عن مصالحها أو مصالح صاحب القناة متجاهلة نبض الشارع ومصالحه ..ناهيك عن شيوع نمط الصوت الواحد في الفضائيات والبعد عن آمال المواطن وآلامه.. وهي الآفات التي أصابت الناس بالملل والإحباط فانصرفوا عنها وتركوها تنعي حظها. ما أحوجنا لإعلام رشيد لا سلطان عليه إلا ضميره وميثاق شرفه .إعلام يلتزم بقضايا وطنه ويساير تطورات عصره واحتياجات مجتمعه وتحولاته الكبري ..ولن يتحقق شيء من ذلك بالوجوه القديمة التي أكلت علي كل الموائد ولا بالطريقة العقيمة ذاتها بل بجيل جديد يدرك حدود مسئولياته ومقتضيات واجباته ورسالاته. .. فهل ينجح ترتيب البيت الإعلامي في تجاوز إشكاليات وأمراض المهنة إلي ما ننشده من رشد ونضج وموضوعية وتنوير..نتمني. E: [email protected]