ارتبطت مصر طوال عهودها بمهنة الزراعة.. حيث نهر النيل باعث الحياة وظل الفلاح الذي عاش حوله يزرع ويحصد هو الركيزة الأساسية للحياة والتنمية. وعندما جاءت ثورة 23 يوليو أعطت لعمال الزراعة والفلاحين ميراثاً لم يحظ به طوال تاريخه. فتمكن من تملك الأرض ليعمل ويجني ويعيش علي ما يحصده. علي مدي 40 عاماً الماضية تغيرت القوانين وأهملت الحكومات السابقة الزراعة والفلاحين. فتدهورت الزراعة وقل الانتاج وهجر عمال الزراعة الأرض إلي المدينة للبحث عن عمل. فنقل مشاكله وهمومه إلي المدينة التي حوصرت بعشرات العشوائيات التي أضافت هموماً ومشاكل لا حصر لها. خبراء الزراعة والاقتصاد أكدوا أن نهضة مصر الحقيقية تبدأ من عامل الزراعة البسيط الذي يجب أن ترعاه الدولة وتعطيه المزيد من الاهتمام الصحي والاجتماعي ليتمكن من العمل وفق قوانين تحميه وتحمي أسرته. ارتفاع أسعار التكاليف في البداية يقول محمد عبدالمطلب "مزارع": أعمل بالأجرة في أراضي الغير لكسب لقمة العيش وسد احتياجات أسرتي من مأكل ومشرب وملبس ومصروفات المدارس. وكثيراً من الأوقات لا أجد عملاً. ما يؤثر علي حياتي. فليس لدي أي مصادر أخري لكسب رزقي. وأحلم بامتلاك قطعة أرض حتي ولو في الصحراء واستصلاحها وتحويلها إلي أرض زراعية أعيش علي خيرها ولا أحتاج إلي مد يدي إلي الآخرين. ونحن الفلاحون الأقدر علي تحمل الصعاب لاستصلاح الصحراء ولدينا الخبرات الكبيرة للزراعة لأنها مهنتنا من جدود الجدود وتربينا في أسر زراعية. يضيف سيد عبدالله "مزارع": نعاني الأمرين في زراعة الأراضي المستأجرة. حيث الزراعة في هذه الأيام لا تدر ربحاً بعد ارتفاع القيمة الإيجارية للفدان. بجانب ارتفاع أسعار التقاوي والمبيدات وقلة الأيدي العاملة في الزراعة. ما أدي إلي ارتفاع تكلفة الفدان بالمقارنة بمكاسبنا بعد بيع المحاصيل مهما كانت لا تكفي لسد ديوننا. وكل ما أتمناه أن أمتلك بضعة فدادين في أي مكان وعلي أتم الاستعداد الانتقال بكامل أسرتي إلي الصحراء لاستصلاحها وتحويلها إلي أرض تنتج الخير لنا وللبلد. يري فرج الجندي من صغار المزارعين أن العامل الزراعي لا يصلح لأي عمل آخر غير الزراعة وهي مصدر رزقه الوحيد.. فلماذا لا توزع الدولة علي العامل الزراعي أراضي لاستصلاحها وزراعتها حتي يضمن مستوي معيشياً مناسباً بدلاً من هجرته للزراعة والذهاب للمدن للعمل فيها والقبول بأي عمل يحصل عليه وفي نفس الوقت تستفيد الدولة من الأرض التي قام باستصلاحها وزراعتها بتسويق المحصول الذي يزرع. يؤكد أيمن جمال "مزارع" أن العامل الزراعي ثروة قومية لابد من الحفاظ عليها بدلاً من هجرته للأرض.. فمنذ أكثر من 40 عاماً والفلاح حقوقه مهدرة وجميع مستلزماته يحصل عليها من السوق السوداء ومعرض للطرد من صاحب الأرض في أي وقت. فهو مهدد في كل الأوقات ويعيش حياة غير مستقرة. فيضطر للسفر للبلاد العربية للعمل فيها أي عمل لكي يدر عليه دخلاً للإنفاق علي أسرته وتزويج أولاده. مراعاة صغار المزارعين يشير ابراهيم السعيد "نقيب الفلاحين" بمركز قلين محافظة كفر الشيخ إلي أن المزارع المصري هجر الزراعة بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة وضرورة النظر للمزارع الذي يتعرض الآن لدخول السجن بسبب الديون المتراكمة عليه من تقاوي وسماد وبذور كلها من السوق السوداء. مؤكداً أن الدولة لابد أن تساعد المزارع الصغير الذي لا يملك أراضي زراعية ولا حيازات ويعمل بالأجرة أو استئجار الأرض من أصحابها بتوفير عدد من الأفدنة لاستصلاحها في الصحراء وتمليكها لهم أسوة بالشباب الخريجين الذين فشلوا علي مدار السنوات السابقة في تجربة استصلاح وزراعة الأراضي الصحراوية. فيجب "إعطاء العيش لخبازة" كما يقال في الأمثال الشعبية الريفية. الهجرة للمدينة يؤكد الدكتور عبدالعظيم الطنطاوي رئيس مركز البحوث الزراعية الأسبق وعضو اللجنة الدولية للأرز أن هناك العديد من الأسباب والدوافع التي جعلت الفلاحين يعزفون عن زراعة الأرض مثل ارتفاع تكلفة الزراعة وقلة العائد. ما يؤدي إلي تراكم الديون. ما يجعلهم يبحثون عن مصادر رزق أخري. يترتب عليه أن أصبحت بعض القري بالريف طاردة لسكانها. خاصة بعد إهمال الدولة لدور الفلاح المصري وتركه فريسة للتجار الجشعين ومحتكري الأسواق. علاوة علي اختفاء دور الجمعيات الزراعية والإرشاد الزراعي. يشير "طنطاوي" إلي أن من المخاطر الحقيقية ترك صغار المزارعين في مهب الريح وعلينا جميعا النظر إليهم ورعايتهم وإعطائهم مساحات من الأراضي الصحراوية بدلا من شباب الخريجين حتي لو 5 أفدنة لهم يستصلحونها وتحويلها لأرض خصبة تنتج مختلف المحاصيل "وأهل مكة أدري بشعابها" بدلاً من هجرتهم غير المنظمة إلي المدن للبحث عن مصدر رزق. ما يؤدي إلي تزايد العشوائيات وضرورة البحث عن حلول جذرية لاستئصال هذه الظاهرة من جذورها عن طريق منظومة متكاملة تشجع علي البعد عن الوادي الضيق والاتجاه إلي الصحراء الواسعة. منح الأراضي الدكتور جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة يؤكد أن فكرة توزيع أراضي علي شباب الخريجين أثبتت فشلها بقوة مثل مشروع توزيع خمسة أفدنة لكل شاب في منطقة النوبارية لعدم وجود مساعدات كافية من الدولة وعدم توفير التمويل اللازم للشباب. فيجب علي الدولة مراعاة صغار الفلاحين القادرين علي تحمل المشقة في استصلاح الأراضي. خاصة المزارعين المعدمين بقري الريف بما لديهم من خبرة في مجال الزراعة. ولكن يجب أن يتم تمليكهم الأراضي أو منحهم حق الانتفاع بها لمدد طويلة تجعلهم يشعرون بالاستقرار وأن يتم ذلك من خلال وضع خطط واضحة في مجال التنمية الزراعية في الظهير الصحراوي. يضيف "صيام" أن صغار المزارعين الذين لا يملكون أراضي ويعملون بالأجرة في أراضي الغير أصبحوا لا يجدون فرص عمل كبيرة بعد تقلص المساحات المنزرعة بعد تحويلها لمبان. فاضطر إلي هجرة الزراعة والبحث عن مصادر رزق أخري. فيجب عمل دراسات وخطط تشجيعية تجذبهم إلي الهجرة إلي الظهير الصحراوي وتحويله إلي أراضي زراعية وحدائق تعود علي الدولة بكثير من النفع في سد ولو جزء بسيط من فئة المزارعين المعدمين. تناقص المساحة الزراعية يري الدكتور محمد زيدان أستاذ الاقتصاد جامعة المنوفية أن القطاع الزراعي من أهم الأعمدة الرئيسية لبناء اقتصاد قوي وبنظرة سريعة لمشاكل صغار الفلاحين تتركز في الأسباب الآتية وهي: تناقص المساحات المنزرعة من أجود الأراضي بوسط الدلتا إلي خرسانات صماء. علاوة علي أن جميع الأراضي الزراعية التي أصبحت في الحيز العمراني قام بعض الفلاحين من أصحاب الأراضي بتبويرها وردم المساقي لتصبح أرض مباني طمعاً في الربح. ومن أهم تلك الأسباب هو بعد تفعيل قانون التمليك ونزع الأراضي من صغار المستأجرين وأصبح هناك مزارعون عاطلون. ما أدي إلي هجرتهم للمدينة للبحث عن مصدر رزق أو العمل بحرف مختلفة غير الزراعة. وأخيراً أصبح الفلاح يهتم بتعليم أبنائه بالمدارس ولا يرغب في تعليمهم مهنة الزراعة التي أصبحت لا تجدي. فالزراعة أصبحت مدنية جداً. فعلي الدولة وضع خطط تنموية مستديمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتشجيع صغار الفلاحين للعودة مرة أخري إلي الفأس والأرض عن طريق حصر كامل لهؤلاء المزارعين علي مستوي الدولة. حيث انهم ذو خبرات كبيرة في مجال الزراعة ودرايتهم الكاملة بطرق الري وأن تقوم الدولة بتوزيع الأراضي الصحراوية علي صغار الفلاحين وشباب الخريجين بالمشاركة. يشير "زيدان" إلي أنه علي الدولة مراعاة حق صغار المزارعين في معيشة كريمة بتوفير السكن الملائم والرعاية التعليمية والصحية لهم ولأسرهم وتوفير كل الخدمات في العمل الزراعي الآمن بتوفير مياه الري والأسمدة ومستلزمات الزراعة المدعومة من الدولة. تقول الدكتورة يمن الحماقي رئيس قسم الاقتصاد بتجارة عين شمس إنه من حق المزارع الصغير الذي لا يملك حيازة زراعية أن يعيش حياة كريمة له ولأسرته بدلاً من حياة السخرة التي يعيشها بعمله لدي أصحاب الأطيان. وبالنسبة لمنح المزارعين البسطاء الذين لا يملكون أراضي زراعية أرضاً لاستصلاحها مثل التي توزع علي الخريجين. فهذه الفكرة تحتاج دراسة حتي يحصل المزارع البسيط علي هذه الأرض لاستصلاحها حتي تصل في النهاية لمشروع متكامل. أضافت أن سبب فشل المشروعات أنها تكون غير مدروسة وغير متكاملة. علاوة علي الخطط غير المرنة للتعامل مع البشر. فلابد من عمل حصر فعلي لكل هؤلاء المزارعين حتي نصل للمزارع البسيط الحقيقي. مؤكدة أنه لابد من بذل الجهد الكبير ووضع الأسس السليمة لنجاح المشروع في ظل الظروف التي تؤثر علي القطاع الزراعي. ثم تأتي خطوة توزيع الأرض عليهم وأن أضمن لهم حياة كريمة مستقرة في مشروع مشاركة وتعاون بين المزارعين الصغار وشباب الخريجين مستفيدين من خبرة المزارع وعلم الشباب الخريجين في استصلاح الأراض وأن يكون للمزارع نسبة في ملكية الأرض المستصلحة ومن هنا تصبح الاستفادة مشتركة وضمان نجاح المشروع.