المحن محك لا يخطيء وميزان لا يظلم وسهم لا يرتد يكشف عما في القلوب ويظهر مكنونات الصدور ويفصح ما سترته النفوس فالبلاء يختفي معه الرياء وتبدو حقيقة المرء بجلاء. فقد يظن المرء بنفسه التجرد والكمال والصدق فإذا وقعت المحنة وتغير الحال تبين من يبكي ممن يتباكي والصادق من الكاذب والصابر من الجزوع قال تعالي "وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور". فعندما ينزل البلاء وتحل المحن وتحدق الخطوب تطيش أحلام فريق من الناس فيذهلهم ما نزل بهم عن كثير من الحق الذي يعلمون فتقع الحيرة ويثور الشك وتهجر الحقائق وتتبع الظنون ويحكم علي الأمور بغير علم ويقضي فيها بغير العدل وينسي ان سنة الله في الابتلاء ماضية في خلقه. والابتلاء آلية من آليات تمحيص البشر جاء حديث القرآن عنها جليا واضحا لا خفاء فيه فقال ربنا سبحانه "ألم احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" فلو ان الله لم يخلق المنغصات لم يعرف المنعمون قدر النعم فلولا المرض ما عرفنا العافية ولولا الخوف ما شعرنا بأثر الأمن ولولا الفقر ما عرفنا قدر الغني وبضدها تتميز الأشياء وفي كل أمر من هذه الأمور خير للمؤمنين ولكن أكثرهم لا يعلمون قال صلي الله عليه وسلم "عجبا لأمر المؤمن ان أمره كله له خير ان اصابته ضراء صبر فكان خيرا وان اصابته سراء شكر فكان خيرا له" رواه مسلم. فمن تمام نعم الله علي عباده المؤمنين ان ينزل بهم من الشدة والضر والبلاء والمحن والأمراض والأسقام ما يدفعهم إلي اللجوء إلي الله تعالي يلجؤون إلي خالقهم فيدعونه مخلصين له الدين يدعونه ولا يدعون أحدا سواه فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه والبراءة من الشرك ما هو أعظم عندهم من زوال المرض والخوف أو الشدة والضر. ان الصبر عند البلاء له أجر عظيم ويعرف ذلك الأجر والثواب عندما ينكشف الغطاء يوم القيامة. روي جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ان النبي صلي الله عليه وسلم قال "يود أهل العافية حين يعطي أهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت تقرض في الدنيا بالمقاريض" رواه الترميذي وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم حتي الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. ومن حكم الابتلاء ان تكون للعبد عند ربه منزلة رفيعة ومقام كريم لا يبلغها بأعماله فيكون البلاء سببا لبلوغه إياها كما جاء في الحديث عن ابي هريرة رضي الله عنه انه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "ان الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتي يبلغه اياها" اخراجه أبويعلي في مسنده وابن حبان في صحيحه وقال صلي الله عليه وسلم "إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغه بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله ثم صبره حتي يبلغ التي سبقت له من الله عز وجل" رواه الطبراني والبيهقي. ومن فوائد البلاء ان يكتب للعبد أجر عمله الذي كان يعمله وهو صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إذا مرض العبد أوحي الله إلي ملائكته: يا ملائكتي أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي فإن أقبضه اغفر له وان أعافه فجسد مغفور ولا ذنب له" اخرجه احمد وعن أبي هريرة رضي الله قال صلي الله عليه وسلم "إذا مرض العبد المسلم نودي صاحب اليمين ان أجر علي عبدي صالح ما كان يعمل وهو صحيح ويقال لصاحب الشمال: اقصر من عبدي مادام في وثاقي" رواه البيهقي. ومن فوائد البلاء اصلاح النفوس وتهذيبها فلو بسط الله لعباده الرزق والنعمة لبغوا في الأرض قال تعالي: "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء انه بعباده خبير بصير" فهو أعلم سبحانه بخلقه وما يصلحهم "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" قال ابن القيم رحمه الله: "الله خالق الخلق وعالم بما يصلحهم فلا يصلحهم إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط".