منذ أكثر من عشر سنوات ذهبت إلي حلوان وكنت قد ابتعدت عن زيارتها لأكثر من خمسة عشر عاماً متصلة.. خلال زيارتي الأولي لها في بدايات السبعينات كنا نسعد ونحن نري القلاع الصناعية المصرية التي يفخر بها كل مصري.. كانت مصانع السيارات التي سبقنا بها كوريا وتركيا وأخيراً بالطبع الصين. سبقنا تلك الدول بأكثر من عقد ونصف العقد من السنين في صناعة السيارات.. وأيضاً كان قلعة الصناعة في حلوان مجمع صناعات الحديد والصلب الذي كان أيضاً مفخرة فقد كان أول مصنع للحديد في الشرق الأوسط في ذات الوقت.. كنا نسعد عندما نركب قطار حلوان من باب اللوق وهو يمر بمحطات عدة تقع بها تلك الصناعات.. وهناك صناعة الأسمنت العتيدة والتليفزيون والمراجل التجارية وغيرها من الصناعات كانت حلوان قلعة صناعية بما تحمل تلك الكلمة من مقومات. سعادتنا ونحن في القطار.. قطار حلوان وأنت تجد المئات من العاملين يصطفون علي أرصفة تلك المحطات قادمين من أماكن إقامتهم ذاهبين إلي مصانعهم أو يركبون القطار عائدين إلي منازلهم بعد انتهاء يوم عملهم كانت فرحة.. وشعور بالزهو والفخار لكل مصري أن يركب سيارة مصرية.. وأن يرتدي ملابس من إنتاج أفخر أنواع القطن في العالم.. القطن المصري بصناعة مصرية من قلاع صناعات النسيج في المحلة الكبري وكفرالدوار وحلوان وغيرها.. شعور الفخر والزهو "دا كان" زمان. أما خلال المرة الأخيرة التي زرت فيها حلوان وبعد أن تحول القطار إلي مترو نفخر به أيضاً.. كان الشعور بالأسي والحزن بعد أن أصبحت تلك المصانع عبارة عن أراض ومبان مهجورة بعد أن باعها أعداء الوطن بأبخس الأسعار وتركها من اشتراها ل "يسقع الأرض" ولم يقم لا بتجديد الآلات ولا حدثها وطورها لينمي تلك الصناعة لكن المؤامرة متكاملة الأركان علي مصر لتدمير صناعتها. أرصفة المترو أصبحت خالية من مئات العمال الذين تحولوا إلي بطالة وهم في أعز سن منتجة بحكم المعاش المبكر.. وتجار الأراضي هدموا المصانع ليحولوها إلي أراض يكسبون منها المليارات دون وازع من ضمير علي الإطلاق وانتهت صناعة السيارات والتليفزيون وحتي صناعة الأسمنت باعوها.. وضاعت الفرحة التي كنت أشعر بها عندما أري العمال السواعد المصرية التي قدمت لمصر الكثير. الحزن اعتصرني.. والألم.. لقد "فرَّت" الدموع من عيني علي ما وصلنا ووصل إليه ضمير بعض المسئولين.. الذين ائتمنهم المصريون علي مصالحهم ومستقبلهم.. فخانوا الأمانة وفرَّطوا في ثروة مصر بأبخس الأسعار وكانوا يدافعون عن الخصخصة بشكل غريب.. ونقول فيهم الآن: حسبُنا الله ونعم الوكيل. تداعت تلك الذكريات مرة أخري لدي عندما وجدت الرئيس عبدالفتاح السيسي يجتمع بالمسئولين ليعيد الحياة إلي ما هو باق من تلك القلاع الصناعية وفي مقدمتها صناعات الحديد والصلب وإعادة الحياة إلي هذا المجمع الصناعي الضخم ليعود إلي العمل والإنتاج يتيح فرص عمل جديدة لشبابنا وأيضاً يحقق التوازن في أسعار السوق التي يحتكرها من لا ضمير له. أيضاً الاهتمام بعودة صناعات الغزل والنسيج التي اشتهرت بها مصر بفضل إنتاجها لأفخر أنواع القطن في العالم.. زمان كانوا يدرسون لنا في الجغرافيا أن إنتاج شركة المحلة ينافس بقوة أكبر مصانع في العالم كتشنر الإنجليزية.. تصوروا تلك الصناعة وهذه المصانع تنحدر حتي أصبحت تقترب الآن من التوقف.. ومن ثم تشريد مئات الآلاف من العمالة التي ارتبطت حياتها بتلك المصانع.. أهل المحلة كلهم ياريس إنتاج المنسوجات في دمهم مهنة ورثوها أباً عن جد. في كل بيت في المحلة قلعة صناعية لإنتاج الفوط والكوفيرتات وغيرها من المفروشات.. كل بيوت المحلة وسمنود نموذج حي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تسعون الآن لإقامتها.. هم ينتظرون دعمهم ومساندتهم وعودة زراعة القطن المصري الذي يوفر لنا العملات الصعبة بتصديره للخارج وحتي لا نستنزف رصيد مصر من العملات الأجنبية.. ونحتاج لغيرنا. أملنا أن نري القلاع المصرية تعود إلي الإنتاج مرة أخري بالتعرف علي مشكلاتها بصدق وإخلاص ونزاهة ومراعاة الضمير لأن تلك الصناعات وعودتها ستسهم كثيراً في تخفيف حدة البطالة بإتاحتها فرص عمل كثيرة للشباب.. وستكون إضافة لدعم الاقتصاد المصري ومصدراً للعملة الأجنبية بعد أن تسترد تلك الصناعات عافيتها بإنتاجها المتميز ذات الجودة العالية القادر علي المنافسة بجد وحق وحقيق. أملنا أن تعود صناعتنا من الحديد والمنسوجات والأقمشة وأيضاً السيارات أن تعود إليها الروح وأن نستفيد من الخبرات والكفاءات الموجودة لتعود السيارة المصرية مرة أخري وكان فيه كلام أن وزارة الإنتاج الحربي ستتولي عودة الحياة إلي النصر للسيارات.. نأمل ذلك وأن تكون تلك العودة سريعة. نتحدث عن جذب الاستثمارات الأجنبية ونتفنن في إرضاء المستثمر وندلله.. ونترك المستثمر المصري ومصانعنا التي تنتظر نظرة لعودة الحياة لجذب الاستثمارات من كل الدنيا وشد المستثمرين الذين يتسابقون للعمل في مصر.. ولكن علينا كما ندلل هؤلاء المستثمرين أن نجد العقود معهم تنص علي أهمية احترام العامل المصري والحفاظ علي حقوقه تماماً بنصوص لا تقبل لا تأويل ولا تحريف لأن المصري لابد ألاَّ يهان في وطنه كما نري من مستثمرين اشتروا مصانعنا في غيبة من الزمن وأهدروا كرامة أبناء مصر. هل يتحقق ذلك الأمل.. وأن تعود الصناعة المصرية إلي سابق عهدها لتحمل منتجاتها مرة أخري "صنع في مصر" هذا ما نأمله وما ننتظره.. لكن بسرعة بعيداً عن بيروقراطية لجان الحكومة البطيئة.