لا أجد سببا واحدا وجيها أو مقبولا. يبرر فتح ملف "الدستور" الحالي الآن. وإطلاق حملة تطالب بتعديله. وتصل إلي الطعن في صلاحية لجنة الخمسين التي أعدته وتولت صياغته. علي العكس. أري أن هذه الحملة - إذا استمرت - يمكن أن تلحق ضررا بليغا. ليس فقط بالنظام السياسي ومجمل الوضع الداخلي. بل أيضا بسمعة مصر الخارجية. خاصة لدي مؤسسات التمويل الدولية. والمستثمرين الأجانب. أفرادا وشركات. توقيت فتح هذا الملف الآن خطأ وخطر. وأرجو أن نتنبه جيدا إلي ذلك. لدينا "خارطة مستقبل" من 30 يونيو. تتكون - كما نعلم - من ثلاث حلقات أو محطات: الدستور - الانتخابات الرئاسية - الانتخابات البرلمانية. أي أن الدستور يشكل حجر الأساس في هذه الخارطة. ومن ثم للنظام السياسي وشرعيته. ولقد فرغنا من إصدار الدستور. ومن الانتخابات الرئاسية. وشرعنا الآن في الإجراءات التنفيذية للانتخابات البرلمانية.. أي أننا في المحطة الأخيرة. المنطق السليم. "وفقه" الأولويات. يفرض علينا أن تكون مهمتنا الأولي هي إتمام الانتخابات البرلمانية علي أفضل وجه. لنحتفل باستكمال خارطة المستقبل التي التزم بها النظام أمام الشعب. وتابع العالم خطواتها بكل الاهتمام. وأن تتخذ من هذه المناسبة قوة دفع كبري. وفرصة للنظر إلي الأمام والانطلاق بثقة وعزيمة إلي المستقبل. لكن الذي حدث ويحدث. اننا ما أن وصلنا إلي مشارف المحطة الأخيرة. حتي انطلقت حملتان في توقيت واحد تقريبا. * حملة تشكك في الانتخابات البرلمانية. وفي شرعية مجلس النواب الذي ستسفر عنه. * وحملة تهاجم الدستور. وتطالب بتعديله. وتطعن في صلاحية من أعدوه. باختصار.. حملة لا تريدنا أن نتقدم إلي الأمام باستكمال الخطوة الثالثة والأخيرة وهي البرلمان. وأخري تشدنا إلي الخلف وتدعونا للعودة إلي المربع رقم واحد. و"العبث" بالدستور. وهذه - في رأيي - هي التسمية الصحيحة لأي تعديل للدستور الآن. نحن - إذن - أمام مخطط ممنهج. يسعي لأن يغرس في واجدان الشعب بذرة الشك في كل خطوة أو انجاز. تحت دعوي الاصلاح أو التصحيح أو التغيير أو أي شيء.. فما أسهل صك الشعارات وصياغة المسميات. هذا المخطط. يريد أن يضع الشعب أو المجتمع. بين دستور معرض للتعديل قبل أن يجف مداده. وبرلمان مهدد بالحل قبل أن يولد. سواء بقرار سياسي أو بحكم قضائي.. فماذا يتبقي من خارطة المستقبل التي جاهدنا جميعا. شعبا وقيادة علي مدي يزيد علي العامين لانجازها؟! لم يتبق - إذن - سوي شرعية الرئيس.. فاذا تقبلنا الدعوة للمساس الآن بما قبلها وهو الدستور. وبالتشكيك فيما بعدها وهو البرلمان.. فما الذي يمنع من التعامل معها بنفس المنطق؟! وهذا هو هدف المخطط.. تقويض شرعية النظام بأكمله. *** لا أريد أن يفهم أحد من هذا التحليل. أنني ضد تعديل الدستور علي إطلاقه. إنما أتحدث عن توقيت أراه مريبا لاطلاق هذه الدعوة الآن. أما إذا كنا نتحدث عن تعديل الدستور من حيث المبدأ. فأنا مع من يقول إن الدستور ليس كتابا مقدسا أو منزلا - بضم الميم - لا يجوز الاقتراب منه أو المساس بنصوصه. لكني أيضا أرفض التعامل مع الدستور وكأنه موقع اخباري في الفضاء الالكتروني. يجري تعديله بالحذف والاضافة كلما وقع حدث أو استجد خبر. بل ولا حتي التعامل معه كقانون عادي. لأن الدستور.. أي دستور.. يجري تعريفه عالميا بأنه "أبو القوانين". إنه من المثير للعجب. أن مجتمعنا تحكمه قوانين يعود تاريخ صدور بعضها إلي خمسين سنة ماضية. يتبرم فجأة من دستور لم يكمل العامين من عمره بعد. إن في دستور 2014 مواد كثيرة لم تختبر في التطبيق علي أرض الواقع بعد.. ومعظم ما استحدثه من مؤسسات. وفي مقدمتها البرلمان نفسه. لم تولد بعد. فكيف نحكم بحاجتنا إلي تعديل نصوص لم نطبقها. ومؤسسات لم نوجدها حتي نتبين من خلال الممارسة العملية صلاحيتها أو فسادها. الدستور صدر بإرادة الشعب من خلال استفتاء عام حر تابعه العالم وشهد بنزاهته. وتم الترويج لهذا الدستور باعتباره متقدما خاصة في مجالي الحقوق والحريات - علي كل ما سبقه من دساتير مصرية. بل وعلي كثير من دساتير دول أخري متقدمة. وهذا صحيح. والدستور صدر ليبقي. ليس بمعني الخلود. ولكن أن يكون بقاؤه دائمال عند نقطة التوازن بين ضرورات الاستقرار ومتطلبات التغيير.. أي في منطقة بين الجمود والسيولة. وبشرط أن يكون التطبيق العملي ونتائجه. هو المعيار الوحيد في الحكم علي أي نص من نصوصه. علينا - إذن - أن نتحسب - من حيث المبدأ - عند التفكير في الاقتراب من نصوص الدستور قبل اختيارها. حتي لا ننقل للعالم الخارجي الذي نعده بقوانين جديدة لجذب استثماراته وتشجيع تجارته معنا رسالة سلبية تهز ثقته في امكانية ثباتنا علي هذه القوانين طالما نحن لا نطيق الثبات علي "أبو القوانين" نفسه. ولا يمكن توجيه اللوم إلي لجنة الخمسين التي أعدت الدستور. علي نصوص يراها البعض فضفاضة. أو يراها آخرون متعارضة. أو يراها فريق ثالث غير قابلة للتطبيق في ضوء امكانيات الدولة الحالية. أو لا تتناسب مع الظروف الراهنة. إلي آخر ما يجري الترويج له من انتقادات. لقد كان المشرع الدستوري مطالبا بأن يصدر دستورا يجسد أحلام المصريين بعد ثورتين ويترجمها إلي قواعد ومباديء دستورية مستقرة. يطمئن الشعب من خلالها علي مستقبله. ولم يكن أحد ليقبل من المشرع الدستوري بأقل من ذلك. ولهذا صدر الدستور بنظرة مستقبلية طموحة. لما يجب أن تكون عليه مصر الجديدة في كل المجالات.. الحقوق. والحريات. ونظام الحكم. ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني. إلي آخره. وما يضعها في مستوي المنافسة العالمية ومعاييرها. وهذا أساس بقاء الدساتير. وهو أنها لا تشرع للحظة الراهنة. ولا حتي للمستقبل القريب. وإنما تصوغ قواعد ومباديء تصلح لخمسين أو مائة سنة قادمة. مع مرونة الاستجابة لمتطلبات التطور المشروعة. وليس من المتصور تطبيق كل مواد الدستور دفعة واحدة. * هناك مواد تنفذ فورا كقواعد مستقرة لها قوانينها الحاكمة. مثل ان ينص الدستور علي أنه لا يجوز تفتيش مسكن أي شخص ألا بإذن من النيابة. * هناك مواد يحتاج تنفيذها إلي إصدار تشريعات جديدة. أو تعديل تشريعات قائمة. مثل النص في الدستور مثلا علي إنشاء مجلس أعلي للاعلام. وهيئتين وطنيتين إحداهما للاعلام والأخري للصحافة. وتم بالفعل الانتهاء من وضع مشروع قانون جديد للصحافة والإعلام لتنفيذ ذلك. * هناك مواد ونصوص يتم التعامل معها كمستهدفات تتحقق في مدي زمني يتفق عليه المجتمع طبقا لاعتبارات المواءمة بين "الالتزام الدستوري". والامكانات العملية المتاحة. مثل النصوص التي ألزمت الدولة بتحديد نسب من الانفاق الحكومي لا تقل عن 3% من الناتج القومي الاجمالي لقطاع الصحة و4% لقطاع التعليم و1% للبحث العلمي مع تصاعد هذه النسب "تدريجيا" حتي الوصول إلي المعدلات العالمية. ولا أظن أن المشرع الدستوري. وهو يصوغ مثل هذه المواد. قد استهدف تعجيز الدولة أو احراجها بالتزامات يعرف جيدا أن إمكاناتها الحالية تقصر عن بلوغها. وإنما كان يرفع سقف الطموح الوطني المشروع إلي مستوي المنافسة العالمية. ويرسم صورة "وطن المستقبل" الذي يستحقه هذا الشعب بعد ثورتين. ومثل هذه النصوص. هي أفضل دافع للدولة لوضع برنامج زمني لبلوغ هذه المستهدفات علي خمس أو عشر سنوات مثلا. وهي أيضا أكبر حافز للمجتمع بكل فئاته ومنظماته علي حشد وتعبئة وتعظيم موارده وامكاناته لمساندة الدولة علي ذلك. من هنا. أكرر ما بدأت به. وهو أنه لا يوجد سبب وجيه أو مقبول يبرر فتح ملف الدستور الآن والمطالبة بتعديله. والطعن فيمن أعدوه. ليس فقط لخطأ في التوقيت. بل لخطر في مضمون الدعوة ومراميها.