يحتاج المرء أحيانًا إلي جهد كبير كي يفك شفرة العلاقات الدولية بتعقيداتها البالغة. أو يفسر مواقف دول كبري في قضايا كبري. حيث ترفض لغيرها ما تبيحه لنفسها دون أن تكلف نفسها عناء تقديم تبرير لذلك. سواء لمواطنيها أو للرأي العام العالمي. حتي أن المرء ليتساءل: هل إلي هذه الدرجة تتوسم فينا هذه الدول كل هذه الغفلة. أنا أحب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مثلا. وأعتبره رجل دولة من طراز "الأساتذة" أو المعلمين. وأتابع. باعجاب. نهجه في مواجهة محاولة أمريكا لبسط هيمنتها علي العالم مستعينة في ذلك بدول الاتحاد الأوروبي. وسعيها لإقامة نظام عالمي أحادي الجانب. متجاهلة القوة العظمي الثانية وهي روسيا. والقوي الأخري الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل. لكني أحتار في تفسير موقف بوتين المعارض لعاصفة الحزم العربية في اليمن. منذ اللحظة الأولي لانطلاقها بقيادة المملكة العربية السعودية. ومشاركة مصر ودول عربية أخري. وتعبيره عن معارضته عملياً بالرسالة التي بعث بها إلي قمة شرم الشيخ العربية. وتليت في الجلسة الافتتاحية. وسبب الحيرة. أن موقف بوتين من تطورات الأحداث في أوكرانيا المجاورة له مازال ماثلاً ومستمراً. واستعادة هذا الموقف مقارنا بمعارضته لعاصفة الحزم العربية تكشف. للأسف عن أن ازدواجية المعايير. أو الكيل بمكيالين. ليس حكراً علي السياسة الأمريكية وحدها. بل يبدو أنها لصيقة بسياسات القوي العظمي عموماً. ماذا فعل الرئيس بوتين. عندما وجد أن الأمن القومي الروسي مهدد نتيجة تدخل قوي خارجية "أمريكا والاتحاد الأوروبي" في أوكرانيا وتشجيعها للمعارضة الأوكرانية علي الإطاحة بالرئيس الأوكراني الشرعي المنتخب الموالي لروسيا. حتي يأتي رئيس موال للغرب يوافق علي ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي لكي تصبح أمريكا وحلف الأطلنطي من خلاله علي البوابة الغربيةلروسيا؟! لم يقف الرئيس بوتين مكتوف اليدين.. ولا نظر لما يجري في أوكرانيا باعتباره "مسألة داخلية" يقع عبء تسويتها علي الأطراف الأوكرانية وحدها من خلال الحوار السياسي. وإنما تصرف كرجل دولة مسئول يقود دولة عظمي. وينظر لما يجري علي حدوده باعتباره جزءاً من محاولة لإعادة رسم وتشكيل أوروبا. بل والنظام العالمي كله بإرادة أمريكية منفردة بغرض عزل روسيا تمهيداً للانقضاض عليها عندما تحين الفرصة. تماما كما جري من قبل للاتحاد السوفيتي. كانت خطوة بوتين الأولي هي العمل علي مساندة الرئيس الأوكراني الشرعي بكل قوة. فلما عجز عن الحفاظ عليه. لم يتردد لحظة في اقتطاع جزء مهم من الأراضي الأوكرانية وهو شبه جزيرة القرم وضمه رسمياً إلي روسيا. ثم دعم الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا المتاخم للحدود الروسية. بالمال والسلاح وكل أنواع الدعم. لقتال الجيش الأوكراني وحكومته الموالية للغرب. وتشجيعهم علي الانسلاخ باقليمهم عن الدولة الأوكرانية ليشكلوا عازلاً بينها وبين روسيا. هذا ما حدث. ومازال مستمراً في أوكرانيا.. لقد تحدي بوتين أمريكا وأوروبا دفاعاً عما رآه أمن بلاده القومي. ومن المهم هنا أن نتذكر. أن مصر تفهمت الموقف الروسي في أوكرانيا ودوافعه. ولم تعارضه سراً ولا علنياً. بل إنه في ذروة أحداث أوكرانيا. كانت مصر تستقبل الرئيس بوتين في القاهرة وكان الرئيس السيسي يوقع معه اتفاقات مهمة للتعاون العسكري والاقتصادي. أظهرت أن بوتين ليس معزولا. ودعمت الاقتصاد الروسي الذي يعاني من العقوبات الأمريكية والأوروبية المتصاعدة ضده بسبب موقف بوتين في أوكرانيا. كما يعاني من الانخفاض الحاد في الأسعار العالمية للبترول. وقد طار بوتين يومها من القاهرة إلي موسكو علي عجل. ليلحق بعد ساعات من وصوله إلي بلاده باجتماع قمة ضمه مع الرئيس الفرنسي أولاند والمستشارة الألمانية ميركل للتباحث حول اتفاق لوقف اطلاق النار في شرق أوكرانيا بين من يسمونهم بالانفصاليين المدعومين من روسيا وبين القيادة الأوكرانية الموالية للغرب. * * * ننتقل من نموذج أوكرانيا والموقف الروسي. إلي نموذج اليمن والموقف السعودي المصري. لقد استشعرت السعودية ومصر أن أمنهما القومي. والأمن القومي العربي بصفة عامة مهدد نتيجة تدخل قوة خارجية "إيران" وتشجيعها لفصيل يمني معارض "الحوثيين" وموال لها علي الاطاحة بقوة السلاح. بالرئيس اليمني الشرعي. والاستيلاء علي السلطة كممثل للنفوذ الإيراني في هذه البقعة من الأراضي العربية. والتي تقع علي الحدود الجنوبية للسعودية. وتسيطر علي باب المندب.. المدخل الجنوبي للبحر الأحمر إلي قناة السويس. بالطبع. لم يكن مطلوباً من السعودية ومصر أن تقفا مكتوفتي الأيدي أمام سعي الحوثيين المدعومين من إيران للاستيلاء علي السلطة في اليمن. لتصبح إيران علي حدود السعودية ومتحكمة في باب المندب كما لم يكن متصوراً أن تنظر الدولتان إلي ما يجري. باعتباره "شأناًَ داخلياً" يخص اليمنيين وحدهم. وعليهم تسويته من خلال الحوار السياسي. لقد وضعت السعودية ومصر الأمر في إطاره الطبيعي ضمن أطماع إقليمية معلنة من جانب القيادة الإيرانية هدفها تغيير موازين القوي في العالم العربي لصالح أطراف غير عربية. من هنا تصرفت السعودية ومصر كدولتين إقليميتين كبريين. من واقع مسئوليتهما عن رد وردع أي تهديد مباشر لأمنهما القومي. بالإضافة إلي مسئوليتهما عن حماية الأمن القومي العربي بصفة عامة. فكانت عاصفة الحزم. لحماية الشرعية في اليمن. واستجابة لندائها. وردعاً لمن حملوا السلاح في وجهها حتي يعودوا مرة أخري إلي طاولة الحوار الوطني. وحتي لا يكون لأي قوة غير عربية. أو قوة معادية سيطرة أو نفوذ في هذه البقعة الحيوية للأمن القومي السعودي المصري العربي. لم تقتطع السعودية حتي الآن جزءاً من الأراضي اليمنية لتضمه إليها. ولم تشجع أي دعوة للانفصال في اليمن.. علي العكس. فإن شعار الحملة العسكرية التي تقودها السعودية ومصر هو الحفاظ علي وحدة التراب والشعب اليمني لصالح اليمنيين. لا يوجد إذن أي أساس قانوني أو أخلاقي يبرر للرئيس الروسي معارضة عاصفة الحزم العربية في اليمن. حتي بالنظر إلي تحالفه مع إيران. لأنه يرتبط في المقابل بعلاقات صداقة مع مصر. ولأن معارضته للتحرك السعودي المصري في اليمن. تضعف كل الحجج التي يبني عليها موقفه في أوكرانيا. إنني لا أتحدث هنا من واقع تأييد أو معارضة لما جري في أوكرانيا أو ما يجري في اليمن. بل من واقع حدثين بينهما تشابهات عديدة. ثم كيف تصرفت دولة كبري تجاه الموقفين بمعيارين مختلفين دافعت حين كان الأمر يتعلق بها مباشرة.. واعترضت عندما كان الأمر يمس أخرين غيرها. * * * ومع ذلك. فإني أري أن الدبلوماسية المصرية مطالبة بالقيام بجهد كبير علي مسارين: * المسار الأول التواصل المباشر. وأظنه قائماً. مع القيادة الروسية لوضعها في تفاصيل صورة الموقف السعودي المصري العربي في اليمن. ومقارنته بإجراءات روسيا في أوكرانيا. وأقول الدبلوماسية المصرية. وليس السعودية. لأن الدبلوماسية السعودية أخذت خطوة إلي الوراء بالهجوم الذي شنه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في القمة العربية. علي رسالة الرئيس الروسي للقمة. والتي عارض فيها عاصفة الحزم. ولابد أن يكون واضحاً للرئيس بوتين ولغيره. أن دعوته لحل سياسي في اليمن ليست مرفوضة. بل هي الهدف النهائي للتحرك العسكري السعودي المصري العربي. لكنها للأسف دعوة "مشبوهة". ذلك لأنها لم توجه للحوثيين عندما تمردوا علي الحل السياسي. وقاطعوا الحوار الوطني. ولم يتم أي ضغط عليهم. لا من روسيا ولا من غيرها. عندما رفعوا السلاح في وجه الدولة. وعندما تقدمت ميليشياتهم لتبتلع المدن اليمنية واحدة تلو أخري حتي وصلوا إلي صنعاء العاصمة. ثم إلي عدن في الجنوب وطاردوا الرئيس الشرعي عبدربه منصور. الدعوة إلي الحل السياسي لم توجه إلا للسعودية ومصر. وكأن كل ما قام به الحوثيون واستدعي التدخل العربي لم يكن شيئاً.. أو كان يتم بتواطؤ من القوي الكبري وبينها روسيا. كما لابد أن يكون واضحاً للرئيس بوتين ولغيره. أنه ليس من الضروري لكي يكسب إيران أو يحتفظ بتحالفه معها. أن يخسر مصر. وإنما ذروة نجاحه أن يكسب الاثنين معا من خلال التعامل بمعيار واحد. * المسار الثاني هو السعي لتقنين دولي دائم ومستقر لوضع باب المندب كممر ملاحي عالمي بصرف النظر عن نوع السلطة الحاكمة في اليمن. إننا نستعد لافتتاح قناة السويس الجديدة بعد أربعة شهور بإذن الله. وبها ستتضاعف حركة الملاحة الدولية من وإلي باب المندب مما يضعه علي رأس أولويات الأمن القومي المصري. وقد أرسلنا قواتنا الجوية والبحرية لتحارب هناك حماية لباب المندب وللحلم القومي المصري في الانطلاق إلي عالم جديد. وهو ما لم نفعله لحماية حقوقنا في مياه النيل من أي تهديد يمثله سد النهضة الإثيوبي. ومن هنا. فإن المكسب الحقيقي الذي يمكن أن نخرج به من هذه الحملة بعد أن تستقر الأوضاع في اليمن لسلطة شرعية يتوافق عليها كل الفرقاء. هو الوصول إلي وثيقة دولية. بضمان الأممالمتحدة تكفل حرية الملاحة العالمية كاملة في باب المندب بمعزل عن أي سلطة وطنية. بحيث لا يمكن تعريضه لأي تهديد من أي جهة في أي وقت.