أعطتنا مصر تاريخاً عميقاً نفخر به بين الأمم.. حضارة سامقة وثقافة إنسانية رائعة علمت الدنيا الوحدانية والأخلاق الفاضلة والعدل والاستقامة حملتها إلينا معابد الآباء ومسلاتهم وحجارتهم وجدران مبانيهم ووصاية الآباء للأبناء وتعاليم الكهنة والكتاب. ورسائل المواطنين إلي الحكام يبثون إليهم شكاواهم ومطالبهم ويشرحون حقوقهم.. أعطتنا مصر الثقافة التي يتعمق في أرواحنا حبها وتنتفس أشواقنا التعلق بها والعودة إليها مهما باعدت بيننا وبينها المسافات والأيام. نعم أعطتنا مصر الكثير الأمان والسكينة والحياة الهادئة الناعمة.. الظلال الوارفة. الهواء النقي.. الطقس المستقر.. الشمس المضيئة الغنية بضيائها ودفئها الليل العاشق لنغمات القلب النابض والشوق الدافئ وضياء الفجر الساهر والساحر يهدهد العشاق يؤنس السمار وينشر ضوءه الفضي علي الآفاق فتنتعش النفس وتصفو القلوب وتنطلق العواطف تنشد أجمل الألحان وأعذب الأشجان تتناثر في سمائه النجوم فتبدو كعقد من المصابيح تناثر في سماء هادئة مبهرة فتهتز المشاعر وتمتلئ الأرواح بهجة وإشراقاً فإذا ما أطل الصباح علي الكون في مصر يبعث نشاطاً وهمة فيتراقص الزرع وتبتسم الحياة ويستيقط الوجود ويتحرك كل شيء فيك يا مصر طيبة وخيراً. وتعاوناً ومروءة. أعطتنا مصر الوفاء والأمل. وشفافية ورقة. وحباً واستئناساً. تتعانق المحبة والصفاء والوطنية والإخلاص. لا نرضي بمصر بديلاً ولا نعشق غيرها وطناً ولا نري غيرها جمالاً. وجاء الدور علينا جميعا لنعطي مصر ما يجب أن نعطيه لها. ونكون جديرين بحبها وبأن نحمل اسمها ونفخر بمصريتنا.. جاء الدور علي الأغنياء فيها أن يعطوا لمصر مما أنعم الله عليهم. وأفاء من خبراتها في خزائنهم. فصاروا منافسين لأثرياء العالم: مالاً وقوة وإمكانيات وقدرة اقتصادية ملحوظة. ألم يأن لهؤلاء أن يشاركوا في بناء مصر الحديثة. مصر المتطلعة إلي رعاية فقرائها. والعناية بشبابها. ودفع اقتصادها بمشاريع بناءة. وصناعات نحن وهم في حاجة إليها لنعوض البلاد ما فاتها من رفاهية. وما حرمت من صحة وتعليم واستقرار وأمن. أما آن للمهاجرين من أبناء مصر والعاملين بالخارج الذين أنعم الله عليهم أن يردوا بعض الخير الذي ميزهم في البلاد التي ذهبوا إليها. أن يردوا بعض الحقوق إلي وطنهم فيشاركوا في نهضته ويدعموا العلم فيه بالمال ممن لديهم منه الكثير بالتخطيط والتوجيه والفكر الهادف إلي نهضة الوطن. نعم أعطانا الوطن الكثير فهل آن الأوان بأن نعطيه مما أعطانا ونعيد له فضلاً ونرد إليه خيراً.. كم تغنينا وصفقنا وهتفنا أناشيد تحمل معاني الحب والهيام بمصر. دون أن نعمل لها أو نشارك في بنائها. هل نكتفي بالهتاف والغناء حتي نكون أوفياء لهذا الوطن.. إن الحب والهيام به لا يكون إلا العمل والكفاح والجهاد في سبيل هذه الأمة. وهذه الأرض التي أرضعتنا خيرها ونعمنا بهوائها وسعدنا في ظلها وشربنا من مياهها وسرنا في دروبها نتآنس ونسعد ونحب ونذوب عشقاً في كل جميل بها وفي كل عبير تتنفسه زروعها أما آن لنا أن نخجل من أجدادنا الذين علموا الدنيا الحضارة والرقي.. أما آن لنا أن نتذكرهم ونسير علي دربهم ونحاكي همتهم وشجاعتهم وخلقهم الإنساني الجميل.. أما آن لنا أن ننظر إلي تاريخنا القريب في النصف الأول من القرن العشرين حين كانت الوطنية مشتعلة في قلوب الناس وعقولهم فتفوقوا في الثقافة والفن والأدب وكان من الرواد المفكر الجبار عباس محمود العقاد والعميد طه حسين والشعراء حافظ وشوقي والعمالقة المنفلوطي ومصطفي صادق الرافعي والأستاذ أحمد حسن الزيات وشعراء الرومانسية علي محمود طه وإبراهيم ناجي وغيرهم كثير. وكان أيضاً طلعت حرب الذي أنشأ بمعاونة المصريين المحبين لوطنهم بنك مصر ليقيم هذا البنك شركات عديدة في السينما والتأمين والتصنيع وكثيراً من الشركات الكبري التي تحمل اسم مصر وذات نظام معماري واحد ما إن يراها أحد إلا ويعرف أنها من إنشاءات بنك مصر. من يصدق أن الأمة المصرية ذات التاريخ العريق الضارب في أعماق الحياة تصل إلي ما هي عليه الآن من تخريب وتدمير وبيع للقطاع العام وفوضي تعم الشارع. وتمزق خلقي مخيف. وهمجية مزعجة لا تدع للعقل مكاناً. نكتفي بإلقاء اللوم علي بعضنا البعض دون أن نعمل علي التغيير أو المساهمة لبناء هذا الوطن أو تقدمه.